تاريخ العلاقات المغربية الإفريقية .. الجذور والامتدادات -الحلقة 3-

من الواضح، وحسب ما يشير إليه أحد الدارسين، في أنه لا يمكن أن نفهم تصور مغاربة القرن الماضي لموقع بلدهم على وجه الأرض، إذا لم نعرف بالتدقيق اتجاه الطرق المتبعة في الأسفار، وتلك الطرق هي في الحقيقة منذ قرون، أرضية وسماوية في آن واحد، طرق المراحل ومنازل النجوم. من هنا يمكن فهم اعتماد المغرب عاصمتين، تعتبران رأسي طريقين اثنين: طريق يربط المغرب بمنزل الوحي، وطلب العلم، والحج. وطريق ثان يربطه بالعمق الإفريقي. الأول جنوبي شرقي، والثاني جنوبي غربي، الأول ينتهي إلى فاس، والثاني إلى مراكش.
فالخريطة كما ترى اليوم، وكما فرضتها الصناعة الخارطوغرافية الغربية تطمس هذه الحقيقة، لهذا يجب أن نضع الخريطة موضع وجهة أخرى، كانت عادية في القرون السالفة. وجهة تحمل في الحقيقة مغزى تاريخنا العميق. فالخريطة الحالية تطمس بروز وأصالة الطريق الثاني، المنغرس في العمق الإفريقي. جاعلة منه طريقا متفرعا عن الأول، في حين أنه مواز له، مضاه له في التأثير على سكان المغرب واقتصادياته.
في هذه الدراسة البحثية، يحاول الدكتور المؤرخ محمد براص إبراز قيمة الجغرافية التاريخية في رصد تاريخ العلاقات بين الدول وخاصة بالنسبة للمغرب، الذي تؤطره أواصر قوية بمحيطه الإفريقي.

العلاقات المغربية الإفريقية في ظل نشر العقيدة الإسلامية ضمن مرحلة الحكم المرابطي والموحدي والمريني

لا يمكن فهم طبيعة العلاقات التي جمعت المغرب بإفريقيا، دون الاستناد إلى الجغرافية التاريخية، التي تعتمد أصول الهجرات وتطورها، فضلا عن العودة إلى علم الطوبونيميا، أي علم أسماء الأماكن ودلالتها التاريخية.
هذا الأمر تنطبق إيجابيته في هذا الموضوع بشكل خاص، حيث نجد دلالة إفريقيا جغرافيا وتاريخيا، قد تطورت في مفهومها ضمن بينة العلاقات المغربية الإفريقية بشكل عام. إذ أن دراسة العلاقات المغربية الإفريقية في عمقها التاريخي، توضع بالأساس، ضمن بينة تركيبة لمفهوم تطور المجال الجغرافي الإفريقي، والتي تُعرف في المصادر التاريخية ببلاد السودان، أي ذلك المجال الجغرافي الذي يضم إفريقيا الغربية بالأساس، وهي المنطقة الواقعة وراء الصحراء الكبرى وشمال المنطقة الشبه الاستوائية، أي المناطق التي كان للمغرب علاقات بها على مر التاريخ.
غير أن هذا المفهوم ضمن بنية العلاقات المغربية الإفريقية، ليس بمفهوم قار تاريخيا، أي أن طبيعة تلك العلاقات عرفت امتدادا وتراجعا حسب كل فترة تاريخية. بل الأمر يوضع ضمن سياق التاريخ الراهن لهذه العلاقات وفق “ميكانيزمات” مغايرة، أساسها مفاهيم العلاقات الدولية التي تبلورت بشكل خاص بعد تأسيس هيئة الأمم المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثم الإقرار بطيعة التطور في المفهوم الجغرافي لإفريقيا، وفق كل سياقات موازية لنوعية المرحلة التاريخية، وليس بشكل ثابت كما يعتقد البعض.
فالعلاقات المغربية الإفريقية، إذا ما تم النظر إليها من وجهة التأصيل التاريخي والجذور، فإن ذلك يجد مضمونه في طبيعة الصلات الأولى التي جمعت شمال إفريقيا بجنوبها، صلات تعود في الواقع إلى تلك الهجرات القديمة، أي قبل القرن السادس عشر الميلادي. والتي عكس ما يعتقد، أنها كانت من الجنوب في اتجاه الشمال، حيث تمت من الشمال في اتجاه الجنوب. وهي هجرات جاءت في خضم ضغط الاحتلال الروماني والوندالي للمغرب، وتوظيف الساكنة في أعمال الصخرة. فكان أن تولد عن ذلك هجرات منتظمة ومتتالية لساكنة المنطقة نحو الجنوب ونحو الصحراء وما ورائها. قطنت الصحراء ووسط النيجر وشمال غانا. عبر ثلاث مراحل أساسية. ضمت المجموعة الأولى أفخاذا من صنهاجة، وخاصة من قبائل لمطة ولمتونة والملثمين المنتسبين إلى هوارة. وقد قطنت الواحات الصحراوية شمال نهر النيجر. أما المجموعة الثانية وهي من صنهاجة أيضا فقد اتجهت نحو الجنوب الغربي، وأوغلت في السودان. بل أسست بها مدينة داع صيتها، وهي مدينة أودغوشت، التي مثلت نموذجا حيويا لبقية الزعماء السود لتأسيس حواضر إدارية مماثلة، ربطت صلاة قوية بالمغرب.
وقد استمر هذا الوضع حوالي ستته قرون. فلم تظهر معالم مملكة غانا إلا في أواسط القرن العاشر الميلادي. فاحتفظت قبائل صنهاجة بمكانتها واحترامها من قبل الحكام الأفارقة ، إذ انطلقت في توسعها إلى ضفاف نهر السينغال. فسميت المنطقة باسم بلاد الزنوج أو الزناجة، أما النهر الكبير الغربي أطلق عليه اسم السنغال، والاسمان معا مشتقان من صنهاجة. وقد تلا تلك الهجرات الأولى، من الشمال إلى الجنوب، هجرة ثالثة، جاءت بعد الاكتساح الوندالي لشمال إفريقيا، تمثلت في هجرة فئة ثالثة من صنهاجة عند بداية القرن الخامس الميلادي، وقد اتجهت نحو الواحات الوسطى، ووجدت في منطقة كوكيا الواقعة جنوب مدينة غاو مجالا للاستقرار. فأقامت بها وعمرتها. وشكلت بذلك امتدادا للأصول المغربية في إفريقيا. على عكس ما تروج له بعض الدراسات، والتي تشير إلى أن أجداد الأفارقة قدموا من أسيا، بل إن هذه الأطروحات تم تفنيدها علميا، بعد التنقيبات الأركيولوحيا التي أجريت في هذه المناطق. والتي أثبتت مدى قيمة تواجد المغاربة منذ القدم بهذه الأصقاع. خاصة على مستوى ثلاث ركائز أساسية. كان لها دورها الفعال خلال المرحلة، وهي الوجود البشري بعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن الدراسات التي أجريت على المستوى اللغوي وتداخلاته .


وأخيرا بفضل تلك الروابط التي كشف عنها تاريخ تطور عمليات توظيف المعادن والتعدين بهذه المناطق. هذا فضلا عن الدراسات الجغرافية والمناخية، التي أكدت أنه في تلك العهود السحيقة لم يكن الحاجز الصحراوي قائما ما بين الإفريقيتين . بل على العكس من ذلك، كانت الصحراء على جانب من الخصب تحقق تواصلا حضاريا غنيا وتأثيرا مهما ما بين الشمال والغرب الإفريقي بواسطة أداتين فعالتين، وهما الفرس والجمل، هذا الأخير الذي دخل إلى المغرب ابتداء من القرن الثالث الميلادي، على عكس الفرس الذي كان له حضور بالمغرب قبل هذا التاريخ .
ظلت العلاقات الإفريقية المغربية قائمة على هذا التواصل، إذ تلاها قيام إمبراطورية غانا ابتداء من القرن السادس الميلادي، واستمرت إلى القرن العاشر الميلادي، وقد شكلت ظاهرة حضارية ومركزية فريدة في إفريقيا الغربية جنوب الصحراء. حيث كان اقتصادها قائما على فرض الضرائب على تجارة الذهب، وتجارة الملح والمواشي وبعض المصنوعات القادمة من المغرب. وقد حظيت صنهاجة بمكانة خاصة لدى العصبية الممثلة لهذه المملكة، والممثَلة في قبائل السراكولي. حيث كان لصنهاجة خبرة واسعة في طرق الحديد وصهره وتحويله إلى أدوات، استخدم البعض منها في المعارك، التي ساعدت على استقرار الوضع لصالح هذه المملكة.
لقد أدت هذه الوضعية المتقدمة لهذه المكونات المغربية، إلى توجه بعض العناصر العربية نحو هذه المناطق، ومن ثمة بداية عهد الفتوحات الإسلامية على يد بن العاص، انطلاقا من الواجهة الشرقية الإفريقية. وبالضبط من غدامس التي كانت تمثل بوابة النيجر الشرقية ابتداء من العام 662م . ويذكر ابن عذاري المراكشي أن عقبة انحدر في حملته الثانية إلى السودان من بلاد المغرب، ووصل إلى غانا عن طريق ودان، وبنى بها مسجدا .
والملاحظ، أنه على الواجهة الشرقية من إفريقيا، وفي الوقت الذي كان الصراع حول استقرار مملكة غانا قائما، قدم من الشرق أشراف ينتسبون لنفس الأسرة الإدريسية، التي حكمت المغرب منذ العام 788م، وأقامت لها دولتين في الأندلس (بني حمود وفي اليمامة بني الأخضر)، وقد سعوا في والوقت نفسه إلى تأسيس مملكة في السودان، بعد أن جاؤوا فارين من المشرق، رفقة أبناء عمومتهم الذي حطوا الرحال في المغرب. وقد فصَل ابن خلدون في هذه النازلة، ووضح أمرها. حيث أسس الأدارسة هناك مدينتهم الشهيرة كومبي صالح، نسبة إلى صالح، الذي لقي نفس الاستحسان الذي لقيه إدريس الأول بالمغرب. فانتعشت المنطقة في تواصل تجاري وثقافي قوي، حيث واكبها تطور مدن أخرى، من قبيل مدينة هينشين. وقد وقع اتصال قوي ما بين الدوليتين، لزالت معالمه مغمورة في الدراسات التاريخية والأركيولوجية على اليوم، إذ أن رسالة المغرب الإفريقية قد تبلورت آنذاك في إشعاع بلغ تخوم النيجر.

>إعداد: محمد حجيوي

Related posts

Top