مبدعون مازالوا بيننا -الجزء الثاني-

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

أحمد اليعقوبي.. مبدع بصيغة الجمع (الحلقة 8)

حكواتي قل نظيره
في أحضان مدينة فاس العالمية، مهد ولادته، احتك الفنان التشكيلي أحمد اليعقوبي (1932 – 1987) بحلقات الدراسة القرآنية بالكتاب، وتابع بعض المراحل التكوينية الابتدائية التي سيهجرها مبكرا. استقرت أسرته بمدينة طنجة الدولية ممارسا عدة أنشطة مهنية متباينة. عرف كراوي قصص وشاعر وكاتب مسرحي. احتضنه الفنان فويكس وساعده على عرض رسوماته الخطوطية والسوريالية بإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن مدينة البوغاز طنجة. في قلب هذه المدينة التي شهدت تلاقح الأرستقراطيين مع الفنانين ورجال الأعمال والمرابين، التقى ببول وجون بولز ونسج صداقة تاريخية مع عالمهما الأدبي والفني منذ عام 1947: «في طفولتي كنت أزاول النحت، إلا أن والدي طلب مني أن أتوقف وأبحث عن نشاط آخر لأن نحت الأصنام محرم في الدين. لهذا صرت أرسم بين الفينة والأخرى إلى أن التقيت «جون بولز» التي شجعتني على الفن التشكيلي»، يبوح أحمد اليعقوبي.


وقد تطورت علاقته مع بول بولز خلال العام الموالي بعد اكتشاف رسوماته الحبرية والفحمية. سافر إلى إسبانيا رفقة هذا الكاتب العالمي وزوجته دجين، وهناك انفتحت عيناه بمتحف برادو على أعمال كبار الفنانين الذين ساعدوه على تنظيم معارض فنية، نستحضر على سبيل المثال معرضه في رحاب رواق بيتي بارسون بنيويورك عام 1952، حيث تعرف على المغنية والممثلة الشهيرة ليبي هولمان، قبل أن يوثق علاقات إبداعية مماثلة، لاسيما مع روبيرت روشنبرغ الذي كان يقيم بتطوان. كما توطدت علاقته مع تينيسـي وليامز، فرانسيس بيكن، ويليام بوروز وترومان كابوت. عبر هذا الملتقى العلائقي أبرز أحمد اليعقوبي ملكاته السردية كحكواتي قل نظيره، فاسحا المجال لبول بولز لاكتشاف جماليات الحكايات الشعبية. نشر له هذا الأديب بأمريكا عدة قصص، من ترجمته وتقديمه وتعليقه (عن دار النشر «زيرو إيتولوجي»)، أشهرها «الرجل والمرأة» التي صدرت سنة 1956، و«الرجل الذي حلم بسمكة في المنام تبتلع أخرى»، و«اللعبة»، وكذلك «الليلة قبل التفكير» التي ستتحول إلى عرض مسرحي: «في بداية الخمسينات، كنت أذهب كل صباح، رفقة أحمد اليعقوبي، إلى أحد الشواطئ النائية هنا في طنجة. نستلقي تحت أشعة الشمس ويحكي لي قصصا مضحكة للغاية.. كنت أحمل معي دفترا وأترجمها إلى الإنجليزية بأقصى سرعة ممكنة.. وهذا مما كنت أحب كثيرا أن أقوم به»، يصرح بول بولز في مذكراته.


كم حفزته هذه العلاقات المعمقة مع الكتاب العالميين على تجويد مواهبه في الرسم والتصوير الصباغي وصقلها، هو الذي استأنس بالإفصاح عنها في سن العاشرة. سيتعزز هذا الاعتراف الدولي بالمبادرة التأسيسية التي اتخذها أصدقاؤه والمتمثلة في إقامة أول معرض له بلندن عام 1950، وهو تتويج غير مسبوق يحظى به هذا الفنان المغربي الذي استمال أرقى الأروقة الدولية التي بادرت إلى تقديم أعماله التشكيلية المتسمة بخصوصية معالجته اللونية وقوة تركيباته الغرائبية. منذ سنة 1952، سيعرض هذا الشباب الذي لم يتجاوز بعد العقدين في أقاصي آسيا، وفي كولومبو، كما استضافه رواق كلان بمدريد.
إلى جانب الرسم والتصوير، سيلج يعقوبي عالم السينما من خلال ظهوره في فيلم هانس ريختر وجان كوكتو وبعد ذلك في فيلم مع جان فوندا، إلى جانب صداقته مع ألين غينسبرغ ومحمد شكري وغيرهما من المبدعين الذين “يشهدون على خط سيره الفريد. الشخصية محببة ورومانسية، وحياته عبارة عن مغامرة مدهشة تمزج بين الهامشية والتصوف والموهبة والاعتراف الدولي، في نهاية العالم المبهجة لطنجة في خمسينيات القرن السابع عشر” (لطيفة السرغيني: الحياة قبل التفكير – على خطى الرسام أحمد اليعقوبي. منشورات آر ديف، 2015).

“اللوحات جزء لا يتجزأ مني”
يحكي الباحث كمال لخضر في مؤلف “نظرات خالدة” (منشورات الشركة العامة المغربية للأبناك، 1995، ص ص 214-216) ما يلي: عندما كان يقيم أحمد اليعقوبي بنيويورك عام 1977، أقنعه صديق عابر بأن يعود إلى المغرب مصحوبا ببعض الأعمال الفنية النموذجية، فبادر الصديق المذكور إلى إقامة معرض فردي له في حضرة بيته مستدعيا صفوة عشاق الفن بالدار البيضاء. من عجائب الأمور وطرائفها أنه بمجرد ما حل بمطار النواصر، طالبته إدارة الجمارك بأداء رسوم استيراد لوحاته، فكان جوابه المفعم بالحسرة والتذمر: “لكن هذه اللوحات جزء لا يتجزأ مني. هل علي أن أؤدي حقوق الجمركة لفائدة استيراد عيوني وأصابعي؟ هل تطالبونني برسوم القميص الذي أحمله، والذي ليس مغربيا، وتطالبونني برسوم هذه اللوحات التي ليست فقط ملكي، بل هي أنا”. لتسوية هذه الوضعية الحرجة اقتضى الأمر تدخل أعلى سلطة حكومية. خلال حفل افتتاح المعرض الخاص، تضاربت انطباعات جماعي اللوحات وتباينت مواقفهم التفاعلية حيالها: فئة منهم متنورة أدركت على التو موهبة الفنان الأصيلة والجريئة، وفئة أخرى انسحبت خلسة في غضون بضع دقائق، غير مقتنعة بأشكاله المبهمة وتركيباته التي لا تشبه أي شيء. لم تنصف أعمال أحمد اليعقوبي، بالقوة وبالقول، إلا بعد عرضها برواق بيتي بارسون بنيويورك الشهير، واقتنائها بأثمنة باهظة، ليتهافت على إثر ذلك المولعون بالمجموعات الفنية. كان أحمد اليعقوبي فنانا مغمورا وغير معترف به في بلده الأصل، رغم كونه يعد من طينة الرواد الأوائل الذين استجابوا لانتظارات عصرهم، وطرحوا بشكل رصين أسئلة الحداثة التشكيلية المعاصرة.

تواطؤ كبير مع فرانسيس بيكون
يصنف النقاد الجماليون تجربة أحمد اليعقوبي ضمن مسالك اللغة التصويرية الحلمية والتعبيرية والسوريالية والحركية: تجربة تنم لا محالة عن اشتغال وظيفي مكثف على التجريب الحداثي الذي شكل هاجس فناني الخمسينيات في تواطؤ كبير مع جهابذة الّإبداع التشكيلي العالمي وأساطينه أمثال فرانسيس بيكون، فنان الكوابيس، الذي التقى به بطنجة وانخرط معه في إنجاز عمل مشترك قبل أن ينظم الثاني للأول معرضا برواق هانوفر (1957). تقاسم أحمد اليعقوبي مع فرانسيس بيكون عدة هموم جمالية ومعرفية في آن معا. فبصحبته، أدرك أن المعرفة قوة، وأن الصمت فضيلة الحمقى، وأن الجمال العظيم لا يخلو من بعض الغرابة، وأن كل الألوان تتماشى في الظلام. انعطف أحمد اليعقوبي عن الجماليات المحاكاتية، منتصرا لملكة التخيل التي تتحكم في التصورات والإدراكات الإبداعية خارج كل تنميط أو تقعيد. إنه من أنصار مقولة “الطبيعة تحاكي الفن”. يقر الباحث كمال لخضر بحقيقة موضوعية مؤداها أن أعمال أحمد اليعقوبي يساورها المنزع الباكوني المفارقاتي، البليغ والمربك: نحن، إذن، أمام لوحات تعبيرية تبرز أحجام الجسد ذي المياسم المطموسة. هذان الفنانان أنجزا معا عملا إبداعيا مشتركا يظل ترجمة مؤكدة لمدى تجاوبهما في الحياة والإبداع على حد سواء. بشكل متواصل، ساهمت رحلات أحمد اليعقوبي المديدة التي عرجت به من المغرب إلى عدة أصقاع دولية (أمريكا، إنجلترا، هونكونغ، البرازيل، ميلان) في إثراء تجربته وتشكيل رؤيته للعالم، دون أدنى انزياح أو عدم اكتراث بالجدل الثقافي والفني الذي أجج الغرب على امتداد الربع الثالث من القرن الماضي.

لوحة “البومتان”
عندما نستعيد سجلاته الأيقونية، تطالعنا على التو لوحته الرمزية المعنونة بـ “البومتان” التي تفضل بنشرها الباحث محمد السجلماسي في كتابه التأريخي “الفن المعاصر بالمغرب” (ص 276): لوحة تجريدية جادت بها قريحة أحمد اليعقوبي عام 1961، وهي تعكس مدى انشغال هذا الفنان بكل ما هو غريب وشاذ، حيث يخترق هذان الطائران الخلفية الدامسة للوحة في شكل مؤنسن وأليف خارج الصورة النمطية التي كرسها المتخيل الجماعي: صورة المكروه، والمكر، والتشاؤم، والشر والحقد. اللوحة عبارة عن تأويل بصري لهذه الهجنة البصرية في محمولها الدلالي الإيجابي الذي لا يقدم طائر البومة كرمز للتشاؤم وكنذير للخراب. فأحمد اليعقوبي تأثر بالثقافة اليابانية التي تعتبر البومة طائرا ذكيا يبدد كل معاناة ومشقة. يدرك جيدا بأنها رمز الحكمة والوفرة والحماية. إنها العين التي ترى كل شيء. ربما هي عين أحمد اليعقوبي التي رأت ما لا يرى، ورسمت ما لا يرسم. كم يدري أن روح الإنسان عندما يموت لن تتحول إلى بومة في القبر، بل تتعالى على كل الأمكنة المهجورة والمخيفة والحالكة.
للإشارة فإن أحمد اليعقوبي عرض برواق بروفونسا بطنجة (عام 1954) وبقصر المامونية بالرباط (عام 1956)، وكذا بالرواق الشعبي والوثائقي بالرباط (عام 1963)، وقد قضى سنوات عديدة بآسيا منذ عام 1954 ليلتحق بعد ذلك بالأوساط الأمريكية عام 1966 التي لازمها حتى رحيله يوم 25 دجنبر 1987 عن سن يناهز خمسا وخمسين سنة بعد معاناة مريرة مع المرض. تم دفن رفاته بمقبرة المجاهدين بمدينة طنجة بعد 24 سنة من مواراته الثرى بالمقبرة الإسلامية بمدينة نيويورك الأمريكية، وذلك استجابة لطلب عائلته في البوغاز، مخلفا وراءه رصيدا وازنا من اللوحات، البعض منها محفوظ بمؤسسات فنية كبرى، مثل متحف الفن الحديث بنيويورك، ومؤسسة بارجيل للفنون بالإمارات العربية المتحدة.

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Top