المرأة في بلاد المهجر..

ما بين الحفاظ على الهوية والرغبة في التحضر

لا نحتاج إلى دليل أو برهان من أجل إبراز أهمية الرجل والمرأة معا في المجتمع الإنساني، فالله سبحانه تعالى حينما أنشأ الكون، وخلق الإنسان، جعل البذرة الأولى لبداية الحياة البشرية تنطلق من آدم وحواء، كما رهن استمراريتها بوجودهما جنبا إلى جنب. فالمرأة والرجل يشكلان على قدم المساواة نواة الأسرة وركيزتها الأساسية، واعتمادا على هذه النواة الصغرى سيتشكل المجتمع وتقوم الحضارات. لكن للأسف فهذه الحقيقة، على الرغم من بداهتها، سيتم طمسها وتغييبها عبر التاريخ الطويل والممتد، وذلك في ظل الهيمنة المطلقة  لسلطة الفكر الذكوري، هذا الفكر الذي كان ولا يزال إلى حد ما سيفا مسلطا على رقبة المرأة، يبالغ في إذلالها بشتى السُبل وبمختلف الطرق، ولا يتورع عن النظر إليها باعتبارها مجرد سلعة تُباع وتُشترى دون أن يكون لها أي دور مهما كان متواضعا في بناء حاضرها أو مستقبلها، وأصبحت وظيفتها الأساس في أحسن الحالات تُختزل في الإنجاب، وتربية الأبناء، وإشباع رغبات بعلها. ومن المعلوم أن وضعية المرأة لا تختلف في الحضارات المتعاقبة التي سبقت العصر الحديث إلا في بعض التفاصيل والجزئيات. ولا نلمس التفاوت إلا في بعض الأمور الثانوية.  ففي أوروبا إبان العصور الوسطى اشتد الخلاف حول خلق المرأة وطبيعتها، وتساءل رجال الدين في مجمع “ماكون” هل هي جثمان بحت؟! أم هي جسد ذو روح؟! يُناط بها الخلاص والهلاك؟! وغلبت على آرائهم أنها خلو من الروح الناجية، ولا استثناء لإحدى بنات حواء من هذه الوصمة، غير السيدة/ العذراء أم المسيح عليه السلام. وحُرمت المرأة أكثر من ذلك من الخروج إلى العالم الخارجي، وشاعت عادة أقفال العفة، وهي أقفال من حديد، رُكبت في أحزمة. وخُصصت لتلبسها النساء حول خصورهن، إذا غاب عنهن أزواجهن في السفر، ثم تُغلق بمفاتيح، يُبقيها الزوج معه، لا تفارقه لحظة. وكان هناك اعتقاد راسخ لا يزعزعه الشك بنجاسة الجسد، ونجاسة المرأة، وباءت المرأة بلعنة الخطيئة الأصلية. غير أن ما هو مؤكد هو أن المرأة كانت على امتداد قرون طوال ضحية فكر ذكوري مسيطر لم تستطع الفكاك منه جزئيا إلا في العصر الحديث بعدما تهيأت الظروف الذاتية والموضوعية، وخلال هذه الحقبة المظلمة في تاريخ المرأة كان تدخل الدين الذي، على الرغم من تكريمه لها، ظل محدودا وغير مؤثر. فكثيرا ما تكون الهوة متسعة ما بين النص الديني وسلطة الواقع بأعرافه. وكان ظلم المرأة مثله في ذلك مثل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان فيما يعرف بالعبودية، وغير ذلك من الظواهر الاجتماعية الأخرى، مقبولا أو على الأقل غير مستهجن.
إن نشأة الوعي بأهمية المرأة في المجتمع، والدعوة إلى تحررها، وما سيترتب عن ذلك من السهر على تعليمها، ودخولها إلى سوق الشغل، سيفضي تدريجيا إلى رد الاعتبار إليها، وإلى تصحيح بعض ما يُنسب إليها من نُقص هو نتيجة طبيعية لجهل الرجل المهيمن لقدرات وكفاءات المرأة. إن قُرونا من تحكم الرجل بالمرأة، وسيطرته عليها، واضطهاده لها أسهم، بشكل كبير، في خلق صورة معينة ونمطية عن المرأة تميل في مجملها إلى التشكيك في قدراتها، وإلى الطعن فيما يمكن أن تحققه من إنجازات. ويصح هذا الأمر على الأقل في مجتمعات العالم الثالث حيث لم تترسخ بعد بشكل تام قيم الحرية والمساواة. والغرب نفسه، وعلى الرغم من أنه قطع أشواطا معتبرة في تحرر المرأة، لم يسلم من مثل هذه الرواسب التي كثيرا ما تجد الطريق ممهدا للظهور بهذا الشكل أو ذاك. وليس غريبا أن تعلو بعض الأصوات النسائية لمقاومة هذا النوع من التفكير، أو لرفع ظلم مسلط عليهن بسبب تمييز في الأجر أو في تقلد مناصب المسؤولية.
وخلافا للغرب فإن دول العالم الثالث، وتحديدا دول العالم الإسلامي، تتفاوت من حيث المكاسب التي تم تحقيقها لفائدة المرأة.  فهناك دول لا تزال فيها المرأة محرومة، بالكامل، من أبسط الحقوق، وممنوعة من التعبير عن ذاتها، ورازحة رغم أنفها ودون أمل في الانعتاق أو التحرر، تحت سلطة الرجل الذي لا يرى فيها سوى أمة خُلقت لكي تكون في خدمته، فيما خطت المرأة في مجتمعات أخرى خطوات لا بأس بها في مجال انتزاع حقوقها، والدفاع عن كيانها المستقل. وهو ما يؤكد، يوما بعد يوم، أن الاختلافات بين النساء والرجال تميل من منظور الدراسات الثقافية إلى التركيز أولا على الاختلافات بمعنى الجندر (اختلافات ثقافية)، وليس بمعنى الجنس (اختلافات بيولوجية).
وقد أثبتت المرأة جدارتها في مختلف المسؤوليات التي أسندت إليها، وأبانت عن كفاءة عالية في التسيير والتدبير والابتكار. لهذا سيكون من السخف والغباء أن يُشكك أحد الآن في مشروعية هذا الحق، وأن يبحث عن تعليلات، كيفما كان نوعها أو مصدرها، للتصدي له أو مقاومته بخطاب لم يعد يقنع أحدا بما فيهم أولئك الذين لا يتوانون في الترويج له عبر مختلف وسائل الإعلام. وسيكون اليوم، من غير المجدي، الرجوع إلى الخلف، والعودة للعيش في كنف الماضي.
إلا أنه في بعض الأحيان نجد أن المرأة كانت هي السبب في تكريس تلك النظرة بالدونية وتجذيرها في مسارها عبر عقود، خاصة عندما تتوفر لها شروط الاندماج والتطور لكنها تبقى خارج هذه الدائرة، نقصد على وجه التحديد المرأة الوافدة إلى أوروبا من دول العالم الثالث، وبشكل خاص من دول الشرق ومن شمال أفريقيا. ولعل ما يشتركن فيه جميعا على الرغم من انتماءاتهن الإثنية المختلفة (عرب، أكراد، تركمان، أمازيغ….)، وعلى الرغم من تباينهن على مستوى الدين أو العقيدة أو المذهب (مسلمون، مسيحيون، سنة، شيعة….) هو ذلك الارتباط، (وإن بشكل متفاوت إذ لمسيحيي الشرق استعداد أكثر للاندماج في المجتمع الغربي)، بسلطة الماضي حيث تجد المرأة نفسها مجبرة في سياق اجتماعي مختلف على العيش في كنف الرجل، والقبول بسيطرته المطلقة عليها دون أي أمل في الخروج إلى الحياة العامة، وولوج سوق الشغل. وكثيرات هُن النساء اللواتي ضيعن، بسبب انغلاقهن في البيت، فرصا ذهبية للاندماج. ومن هنا ليس غريبا أن تجد أحيانا المرأة قد أنفقت جزءا كبيرا من حياتها في الغرب ولا تفقه شيئا في لغة بلد الاستقبال الذي أصبح في نهاية المطاف بلدها الأصلي بالرغم من توفره على عدد كبير من  مراكز تلقين اللغات للمهاجرين وكذا جمعيات المجتمع المدني التي تضع رهن إشارتهن متخصصين في ميادين إدماج المرأة في المجتمعات المستقبلة مراعين في ذلك خصوصية كل بلد ودين، ناهيك عما تقدمه هذه الدول من مساعدات مهمة لهذا الغرض، فهذه الدول تدرك وعن قناعات راسخة أن تكوين المرأة وإدماجها في المجتمع هو السبيل الأنجع  لخلق مجتمع نافع معرفيا، غير أن بعض النساء المهاجرات نجدهن بعيدات عن هذا المسار الذي من شأنه أن يخلق منهن نموذجا فاعلا في البلد المضيف، إذ نجد شريحة عريضة منهن تنبهر بما تقدمه الثقافة الغربية من انفتاح وحرية، وعوض أن تستفيد مما يوفره لها البلد المضيف من حقوق في مجال البحث والتعليم والتكوين تساعدها في خلق شخصية قوية قادرة على العمل والعطاء، نجدها تكرس أغلب جهدها لإظهار مدى تحضرها انطلاقا من تغيير مظهرها بشكل لافت لمسايرة الموضة الغريبة في بعض تمظهراتها الهجينة واستغلال الحقوق بما يتنافى مع الإطار الأسري الذي كانت تعيش فيه سابقا، رافعة عصا الطاعة في وجه أسرتها أو زوجها وخصوصيتها الثقافية والدينية، منبهرة بما يقدمه لها بلد الإقامة الجديد من حرية وحقوق، وقد تفاقم الوضع في السنوات الأخيرة مع كثرة المهاجرين نتيجة الأوضاع غير المستقرة التي عرفتها وتعرفها المنطقة العربية، وارتفعت نسبة الطلاق في الأسر المهاجرة أو اللاجئة، وتم فهم الحرية بطريقة مغلوطة وتوظيف القانون بشكل بشع، فكان الأطفال هم كبش الفداء، هؤلاء الذين كان حلمهم الانتقال إلى الجهة الأخرى من أجل الظفر بحياة هانئة مثل بقية أطفال العالم، نجدهم يزج بهم في دوامة كبيرة لا يستطيعون منها فكاكا، وقد أثبتت بعض الدراسات التي تعنى بالهجرة أن العديد من الأسر المهاجرة واللاجئة عرفت تفسخا أسريا نتيجة عدم اندماج المرأة في المجتمع المستقبل وعدم استغلالها للحقوق على أحسن وجه، وأنا هنا إذ ألقي باللوم على المرأة ليس من باب التجني عليها ولكن من باب الدعوة والنظر إلى عاقبة الأمور، فنحن في حاجة لامرأة  قوية قادرة على إبراز كفاءتها أينما كانت، وليس مجرد صورة تسوقها رياح التغير دون وعي منها .
إن المعادلة الصعبة تكمن في أن تتمكن المرأة من الاندماج في المجتمع الغربي دون أن تفقد هويتها وخصوصيتها الثقافية. وهو أمر مُمكن في فضاء المواطنة الواسع حيث ينعم الجميع في دولة الحق والقانون، بصرف النظر عن العرق أو الدين أو الثقافة، بقدر كبير من الحرية يسمح للمرأة بأن تنخرط بقوة في المجتمع الغربي للإسهام في بنائه لاسيما أن جزءا من الإكراهات، ولا أقول كلها، التي تواجه المرأة في الشرق أو في شمال أفريقيا لا وجود لها في البلدان الأوروبية.
إذ إن فكرة مساواة المرأة بالرجل خاصة في السياق العربي الإسلامي، وتحديدا في المجتمعات التي قطعت أشواطا في التمدن، وليس في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، جعلت المرأة، ولاسيما الأم العاملة، تقوم بوظائف متعددة ومتنوعة تستنزف طاقتها، وتهدر مجهودها، وتجردها من إنسانيتها لـتصبح أشبه بالآلة الصماء التي لا حق لها في الراحة ولا حظ لها في الاستمتاع.
في ظل هذه الظروف الإيجابية سيكون من الواجب على المرأة أن تُشمر عن ساعديها لإبراز كفاءاتها العالية في مختلف مناحي الحياة العامة سواء في الوطن أو في المهجر، وأن تقتنع بأن الطريق نحو الاندماج الحق يمر حتما عبر العلم. وسيكون من المفيد أن تتحول نساؤنا إلى قوة ضاغطة يُحسب لها ألف حساب في أي إجراء يُتخذ في حقل الهجرة أو اللجوء أو غيرها من القضايا الحيوية.

<بقلم: دة. كريمة نور عيساوي*
 
* أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات/ كلية أصول الدين/ جامعة عبد المالك السعدي، تطوان

Related posts

Top