نحو تلمس خيوط سوسيولوجيا اليومي:”الفكر الهجراتي” هنا والآن

لا يختلف اثنان أن مسألة الهجرة لا تستقيم خارج سياقاتها الاجتماعية والمجالية، وعليه، تصبح من مهام العلوم الاجتماعية – بشكل أو بآخر – الكشف عن هذه السياقات وما تفرضه من تحولات وتغيرات حول كيفية حضور الهجرة في الظاهرة الاجتماعية، سواء من زاوية التصور الضيق التي تجعل منها “انتقالا من أرض إلى أرض”، أو باعتبار “الزوم” الواسعة والعميقة التي تسِمُها بالدينامية المجالية والاجتماعية تبعاً لما قد تحدثه من آثار مادية أو ثقافية، إيجابية أو سلبية، في المجال المهاجر منه والآخر المهاجر إليه. فما المقصود تحديداً بالهجرة؟ وكيف تمت مقاربتها بعين سوسيولوجية؟ وهل نتحدث عن الهجرة بصيغة المفرد أم هجرات بلغة الجمع المتعدد؟ وكيف نقرأ جغرافياتها في بعض الحقول المعرفية المتقاطعة سوسيولوجياً؟ ثم إلى أي حد يمكن تتبع مسارات المهاجر من التخطيط إلى التنفيذ وما يترتب عن هذه وتلك في احتكاكه علائقياً بالمجال والمجتمع الطارد والجاذب؟
رزنامة من الأسئلة قد تجد لنفسها أكثر من مبرر منهجي في مفتتح هذا القول، ليس فقط لأنها تضعنا على طريق التساؤل النقدي، بل لأنها تعبّد لنا الطريق نحو مقدمات تمهيدية للاقتراب أكثر من مطامح ورهانات سوسيولوجيا الهجرة بحثا عن بعض المداخل المؤدية إلى دوائرها؛ واعتبارا لذلك سيكون الحفر الأركيولوجي الجغرافي- التاريخي آلية أساسية ضمن آليات اشتغالنا على هكذا موضوع كما أكد على ذلك الدكتور عبد الرحيم العطري ذات سياق مقالي.. خصوصاً إذا علمنا أن الإنسان ابن بيئته المجالية الطبيعية والاجتماعية، يؤثر فيها ويتأثر من خلالها؛ فنجاحه وفشله، تقدمه وتأخره، رهين بنوعية العلاقة التي يقيمها مع هذه البيئة. ومع غياب أي ثبات في الأشكال السوسيو مجالية التي ينتجها هذا الإنسان، والتي تسمح بالتحديد الدقيق لبنياته الاجتماعية، تصبح محاولات فهم تلك العلاقة أكثر صعوبة وإبهاما في ظل الحركية البشرية المتسارعة هنا وهناك. الأمر الذي يجعل من سوسيولوجيا الهجرة في عمقها ومشروعها المعرفي تنتبه إلى أهمية “الشكل المجالي” للواقع الاجتماعي، واستحضاره في صفحاتها باعتباره متغيرا مستقلا وليس تابعا فقط كما هو الشأن في أبحاث ودراسات عديدة.
وهكذا فإن مسارنا على عتبات باب المفهمة يفرض علينا استحضار سؤالين اثنين: هل نتحدث عن هجرة من المجال القروي؟ أم هجرة إلى المجال القروي؟ مع الإشارة أن كليهما تدخلان ضمن نطاق ظاهرة اجتماعية تحیلنا إلى نوع من الحراك الاجتماعي، وبالتالي فهُما – بشكل أو بآخر – هجرة قروية. نقف هنا لنذكر، ونؤكد في نفس الوقت، أن هناك ثراءً على مستوى التعريفات التي قدمها العلماء لوصف ظاهرة الهجرة، حيث تتقاطع في مجملها على أن الهجرة: حركة انتقال فردیة أو جماعیة من موقع لآخر، ومن جماعة لأخرى، بحثا عن عامل الأفضلية والأريحية بتلاوينها المختلفة، سواء أكانت مؤقتة أم نهائية بلغة الزمن. الأمر الذي يضعنا أمام هجرات متعددة وليس هجرة واحدة بلغة المفرد، حيث یمكن الحديث في هذا الإطار عن هجرة من حیث الكم في إحالة إلى ثنائية “الهجرة الفردیة والجماعیة”؛ وهجرة من حیث الكیف، والتي تنقسم أيضاً إلى قسمین: هجرة “شاقولیة” أو عمودیة یسعى المهاجر من خلالها إلى تحسین ظروف عیشه، وهجرة أفقیة تهمّ تغییر مكان الإقامة فقط مع الاحتفاظ بالعمل نفسه؛ ثم هجرة من حیث الزمن ونقرأ فيها الديمومة أو “الأنسطونطانية” (تبعاً للحظات)، أي إما أن تكون نهائیة أو مؤقتة؛ ثم هجرة من حیث المسبب، وتتعدد مظاهرها بتعدد الليل والنهار، حيث نقرأ فيها الهجرة الاختيارية أو القسرية، أو الهجرة السرية إلى غير ذلك. وبالتالي نحن أمام جغرافيات متعددة لمفهومنا المحوري، وفي حقول معرفية مختلفة، والتي لا یمكننا أن نتجاوز إسهاماتها في تنوير المسار السوسيولوجي للهجرة عموما والقروية خصوصا، تماماً كما علمنا آلان فرانكفيل حين أكّد أن “عدة علوم ينبغي أن تتعاون لدراسة فعل الهجرة، وموضعة هذه الظاهرة في إطار الكل الاجتماعي الذي توجد فيه”. وفي هذا الصدد، نمرّ مرور الكرام على الحقل الجغرافي، الديمغرافي، الاقتصادي، السياسي والإحصائي، لنرسو بسفينة مفهمة الهجرة في الحقل السوسيولوجي، فنشير أن أحبابنا السوسيولوجيين اهتموا في البدء بدراسة ظاهرة هجرة السكان تحديداً من القفر إلى الحضر (من القرية إلى المدينة) في نهایة القرن التاسع عشر وبدایة القرن العشرین، وذلك نظرا لاتساع رقعة المتصل الحضري/القروي، وما رافقها من مشاكل وأزمات اجتماعیة من قبيل: ظاهرة الانحراف وسبل الاندماج، وارتباطات هذه وتلك بمتطلبات الظروف السوسيو اقتصادية التي يفرضها المجتمع الصناعي على الید العاملة التي عجزت المراكز الحضرية القدیمة عن توفیرها، واستنجادها بالمجالات القروية وسكانها لسد الخصاص، إلى غير ذلك.. ونجد في “الفلاح البولوني” نموذجاً لهذا النوع من الحراك الاجتماعي.
ومن ثمة، فالهجرة في المجتمع البشري، كما أكد على ذلك الدكتور نور الدين المصوري، تختلف اختلافا كثيراً عن هجرة الكائنات الأخرى في كونها ليست ظاهرة طبيعية أو عفوية، وإنما هي سلوك حامل لدلالات اجتماعية وثقافية، سياسية واقتصادية، لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن الوعي والمجتمع البشريين؛ على اعتبار أن فعل الهجرة عند الإنسان ليس مجرد حركة انتقالية في المجال شبيهة “بتحرك جماد”، وإنما هي هجرة برأسمال وثقافة، وآمال وآلام أيضا. وضمن هذه الرؤية، يأتي الاهتمام بظاهرة الهجرة باستحضار ثنائية “المجال والمجتمع” عبر مستويين: مستوى أصلي (المجال المهاجر منه) للكشف عن الأسباب التي دفعت المهاجر إلى الهجرة، ومستوى الاستقبال لرصد الاستراتيجيات التي يستخدمها القائم بفعل الهجرة للاندماج مع المجال المهاجر إليه، ثم لتتبع الآثار التي يحدثها فيه. وهكذا، يكون المنطلق في بداية “المشوار الهجراتي” مجالياً في بعده الجغرافي الفيزيقي، فيصير عاكسا لثنائية الطرد أو الجذب جراء الخيرات التي يتيحها لقاطنيه؛ ولكي تنطبق هذه الثنائية لابد أن توجد جماعة إنسانية تستوطنه، والتي تعبر عن المجتمع في علاقته بالمجال أصلا. فعدم كفاية الخيرات المتاحة مجاليا يجعل الأفراد يطبقون نوعا من الحساب العقلاني الاقتصادي (التكلفة والفائدة التي يحتمل أن تصاحب عملية الهجرة)، عبر القيام بمعادلة رياضياتية تهم أساسا المقارنة بين وضعية حالية ووضعية استشرافية (الحاضر/المستقبل)؛ وبالتالي يتخذون قرارهم في الهجرة (الفعل/عدم الفعل)؛ تماما كما أشار إلى ذلك الباحث المغربي عبد الرحمان المالكي حين تحدث عن وجود استراتيجية حافلة بالمقارنة والحسابات تتوارى خلف فعل الهجرة. لكن المعرفة السوسيولوجية بخصوص ظاهرة الهجرة لا تكتفي بنوع من المقاربة الأحادية المستندة على ثنائية “الطرد/الجذب” في تفسير الظاهرة، بل ينبغي استحضار ما أشار إليه السوسيولوجي “خالد شهبار” في “نظرية الشبكات والرأسمال الاجتماعي” القائمة على فكرة دخول المهاجر في شبكة من العلاقات الاجتماعية مع مهاجرين (أصدقاء أو أقارب) سبقوه لفعل الهجرة، باعتبارهم نافذة يطل عبرها المهاجر على مجتمع الوفود الذي يظل – حسب وصفهم له – أحسن حالا من المجتمع الأصلي؛ وبالتالي فإن الصورة النمطية الإيجابية، الناجمة عن القيام بهذه المقارنة، هو ما يفسر ظاهرة الهجرة في جزء كبير منها. لكن المشكل الذي قد يتخلل استراتيجية الهجرة تلك، حسب الباحث الجزائري “عبد المالك صياد”، يكمن في قولبة التقييم الإيجابي من طرف المهاجرين القدامى بأكاذيب وطرّهات مشجعة على إعادة إنتاج ظاهرة الهجرة، بعيداً عن التصريح الحقيقي عن واقع المجتمع المستقبل. الأمر الذي يجعل من متغير “الاتصال الثقافي” بين مجتمع الأصل ومجتمع الوفود، والقرب المجالي الجغرافي الذي يفيد في تدعيم هذا الاتصال، من بين المتغيرات القوية في تفسير العوامل المساعدة على بزوغ ظاهرة الهجرة، حيث نقرأ في الأول مدى تواصلية الجماعة الأصلية للمهاجر مع الجماعة المستقبلة عبر علاقات المبادلات أو ظاهرة الاستعمار أو غيرهما، مثلما نقرأ في المتغير الثاني مسافة القرب بين المجالين الحاضنين للجماعتين (الأصلية والمستقبلة)، من قرية ومدينة مجاورة، أو دولة ودولة مجاورة،… وكلما كانت هذه المسافة قصيرة كلما تقوّى معها فعل الهجرة، على اعتبار أن غالبية المهاجرين يفضلون الاستقرار على مقربة من جماعتهم الأصلية نظراً لاقتناعهم بأن الهجرة هي “حالة مؤقتة” فقط.
وهو ما يجعلنا نسائل سوسيولوجياً مسارات الهجرة باعتبارها ظاهرة يمكن النظر إليها عبر تقطيع منهجي للحظاتها الموزعة بين الما- قبل، وأثناء، ثم الما- بعد فعل الهجرة، في إحالة على البحث في متغيرات الانطلاق ومتغيرات الوصول التي تحيل بدورها على عدم إمكانية القيام بمقاربة “سوسيولوجيا الوفود L’émigration” دونما استحضار لسوسيولوجيا “النزوح L’immigration”. وهو بالضبط ما نلمسه في دراسة “وليام إسحاق طوماس” و”فلوريان زنانيكي” حول “الفلاح البولوني”، واقتناع رواد مدرسة شيكاغو بأن المجتمع الأمريكي يملك القدرة على استيعاب وانصهار الأقليات الوافدة إليه في إطار الاندماج؛ مثلما نقرأه أيضا في مساهمة السوسيولوجي الجزائري “عبد المالك صياد”، سواء عبر العمر الأول حيث يعتبر المهاجر مبعوثا لـ “تاجماعت” الأصلية ليس إلا، أو العمر الثاني وفق “الهابتوس الاقتصادي”، حيث يصبح مجتمع الأصل تابعا للفرد المهاجر، أو العمر الثالث حيث تتخذ الهجرة نموذجا جديدا يجلب من خلاله المهاجرون أسرهم من موطنهم الأصلي بغرض الاستقرار في مجتمع الوفود؛ ومن ثمة يملك المهاجر قوة “الحضور المزدوج”، إذ يمكنه التأثير أيضا في جماعته الجديدة والقديمة عبر مؤسسات جمعوية وهياكل قانونية تيسر التواجد بهما معا.
وبإسقاط ذلك على التربة المغربية، نجد أن ظاهرة الهجرة تشكل حلقة مهمة في تاريخ التحولات التي عرفتها بنيات المجتمع المغربي، سواء في فترة الاستعمار أو ما قبلها وما بعدها، وما رافقها من تضييق للمعيش اليومي للساكنة وفرض أشكال استعمارية اقتصادية وتجارية واستنزاف لثروات وخيرات البلاد، ناهيك عن عمليات مصادرة الأملاك واستيلاء على الأراضي؛ الشيء الذي أدى إلى خلخلة النظام المجتمعي على مستويات عدة، وساهم – إلى حد ما – في انطلاق حركية مجتمعية تجلت في ظاهرة الهجرة القروية بشكل مكثف. وقد استمر نفس “المسلسل التراجيدي” للهجرة تقريباً بعد الاستقلال، حيث رغم إنجاز الدولة لمجموعة من المشاريع التنموية فإن السياسة المعتمدة في صياغة تلك المشاريع لم تستطع التخلص من الإرث الاستعماري، ولم تكرس سوى التفاوتات وغياب التكامل السوسيو اقتصادي بين المدينة والقرية ووسعت من هوة المفارقات بين هذه وتلك، خاصة بعد تغلغل النمط الرأسمالي وإدماج المغرب في السوق العالمي بما يتلاءم وخدمة أهداف الرأسمالية التي جعلت من مسألة التنمية إشكالية حقيقية. وتتمظهر هذه الأخيرة مغربياً في استمرار سياسة المركزية التي أدت إلى مضاعفة الأزمة في المجال القروي وعوامل الطرد فيه جغرافياً، اجتماعياً، ثقافياً، ديموغرافياً، اقتصادياً وسياسياً، مثلما جعلت من مجتمع المدينة يقبع أكثر فأكثر تحت رحمة عوامل الجذب عبر الاكتساح القروي على شكل موجات مكثفة من الهجرة غير المنظمة؛ موجات أصبح من خلالها الفلاحون والقرويون عموماً يغيرون نظرتهم إلى الأرض وإلى مجالهم القروي وطبيعة الحياة فيه، بوصف نمط عيشهم في أحضانه بالقاسي والجاف والمتعب والمعزول. وإذا ما سلمنا أن العامل الحاسم في اتخاذ قرار الهجرة غالبا ما يكون اقتصاديا صرفاً فإنه في ذات الآن لا يمكن اعتباره العامل الوحيد والأوحد، إذ يتحدث المالكي عن وجود ما أسماه بـ “العامل المركب”، في إحالة على وجود أسباب متعددة كل واحد منها يؤدي إلى الآخر؛ الأمر الذي يجعلنا نقرّ بأن المغرب، ومن خلاله القرية المغربية، بلد هجرات بامتياز.
وهكذا، فالهجرة لا تنتمي إلى سلّم الفجائيات، وليست ضربا من العشوائيات وغياب الدوافع والمبررات؛ فعندما يقرر المهاجر تفعيل الهجرة، فهو يبني سلفاً استراتيجية ينشد من خلالها تغيير الحال والمآل. وقد وضع “المالكي” خطاطة نموذجية تلخص مسار انتقال المهاجر من البادية إلى المدينة، تنطلق أولا من لحظة التردد والاختيار عبر إجراء مقارنة بين المكان الأصلي والمكان المستقبل (البادية والمدينة)، تماما كما صرح بذلك أحد ساكنة جهة فاس مكناس على سبيل المثال لا الحصر حين قال: “الله يـدّينـا لفــاس ويْـدّي فــاس للجَنّة”، بغرض تكوين صورة سلبية عن مكانه الأصلي (البادية) وأخرى إيجابية عن المدينة، في أفق البحث عن سبب مباشر للهجرة (جفاف، ضعف المدخول، عدم امتلاك أرض، الفقر، تعليم الأطفال، الضغط الاجتماعي، المشاكل العائلية، وفاة الأب أو الأم،…)؛ وثانيها الانخراط في شبكة هجراتية تيسر ميكانيزم الهجرة عبر ربط علاقة مع أقارب أو أصدقاء في المدينة من خلال الزيارات المتبادلة، والقيام بهجرات “تسخينية” متتالية للمدينة بحثاً عن العمل أو السكن؛ لتختتم ثالثا بتفعيل الهجرة إما بشكل فردي أو آخر جماعي – لاحقاً – مع باقي أفراد الأسرة/العائلة. جدير بالذكر أن المهاجر يمر بما يعرف بمراحل الاندماج في بلد الاستقبال، حيث نستنجد في هذا الباب بأحد رواد مدرسة شيكاغو (روبرت إزرا بارك نموذجاً)، ودورة “العلاقات العرقية” في تفسيره لسيرورة الاندماج، والتي دشنها بدخول المهاجر الجديد في المنافسة، بحثاً عن موقع ضمن النسيج الاجتماعي المستقبل، ومحاولته لانتزاع الاعتراف بالوجود من الآخرين؛ وأهم ما يميز هذه المرحلة هو الغرابة في الاتصال والتواصل. بعدها تأتي مرحلة الصراع، حيث يبرز نوع من البحث عن اقتسام السلطة بين المهاجر والمجتمع المستقبل، إذ أصبح هذا جزءا من ذاك؛ وأمام معادلة رفض الاعتراف ينفجر الصراع الذي يعتبره “بارك” إيجابياً بوصفه اعترافاً في حد ذاته، ومن ثمة يتم تقديم تنازلات من شأنها التقليل من هذا الصراع لدرجة تجعل جماعة المهاجرين تفرض نفسها في هذه المرحلة ولو من موقع ضعف. ثم تأتي مرحلة التكيف كنتيجة حتمية للاعتراف سالف الذكر، الذي يفتح معه جسور التواصل؛ وهو ما يجعل المهاجر ينفتح على مستويين: الاحتفاظ بنظامه الثقافي العاداتي الأصلي، فيواصل مسار الصراع لدرجة القطيعة، أو يعترف جزئيا بثقافة البلد المستقبل ويحدث ما يسمى بالتوافق الثقافي. وأخيرا مرحلة الاستيعاب التي تُعد الأطول زمنياً وتعقيداً، تبعاً لشبكة العلاقات التفاعلية التي تنسج من خلالها، وهذا التفاعل يخضع للكثير من الشروط والتنازلات المتبادلة، وجملة من التوافقات المصطنعة، حيث الخوف من صدام الثقافات المختلفة مستقبلا يجعل التوافق ممكنا دون ذوبان. وهكذا، يمكن التأشير في الختام على تغير طبيعة كل من المهاجِر والمهاجَر إليه، فالمدينة بعد حلول المهاجر لا تظل هي نفسها، كما أن المهاجر بعد حلوله بها لم يعد ذاك الإنسان القروي ذاته؛ وبالتالي يبرز سؤال الاندماج والهوية المجالية. ليصبح المهاجر هنا هو ذاك الشخص الذي عبر عنه بارك بقوله إنه “إنسان ثقافتين” و”إنسان مجتمعين”، حيث لا يزال متمسكا بثقافته الأصلية ويحاول في نفس الوقت الانخراط في “الثقافة الجديدة”. الأمر الذي يجعل أصنافا من المهاجرين إلى المدينة يسعون إلى تكوين مجتمعاتهم الخاصة، حيث يميلون إلى الاجتماع في منطقة حضرية معزولة تصبح منطقة “الحراك الهجراتي”، والتي يسميها “إرنيست بيرجيست” بالميناء المفضل للدخول (دخول مهاجرين جدد)، باعتبارها منطقة تساعد على إدماج المهاجرين وتأقلمهم تدريجيا في مجتمع الوفود دون مشاكل.
هكذا تضع سوسيولوجيا الهجرة الظاهرة الاجتماعية المغربية هنا والآن أمام مرآة واسعة الأبعاد، تجعلها تنظر إلى ذاتها بكل أبعادها واختلافاتها، وتطرح التساؤل نفسه: إلى أي حد يستثمر الساسة (من السياسة) مخرجات هذه النوع من السوسيولوجيا في بناء بيئة مجتمعية سليمة تنمويا؟

<بقلم: مصطفى الهبطي

Related posts

Top