قوة الرمز في أعمال الفنان العالمي فائق العبودي

تشكل تجربة الفنان فائق العبودي، بما تحتويه من قوة رمزية؛ قاعدة أساسية في التجريد المعاصر، وفي المشهد الفني العالمي، وذلك لما تحمله هذه التجربة العالمة من آليات فنية تفعيلية للتدليل عن آرائه التشكيلية وتصوراته وفلسفته في التعبير بالرموز والعلامات والألوان، إذ تتبدى قدرته الفائقة جلية في توظيف الصورة الرمزية، والشكل العلاماتي، واللون في تشكلاته واندماجه في مختلف المفردات الفنية داخل الفضاء على عدة مناحي، منها التكوين، والأداء التشكيلي، والتقنيات العالية، والتعبير بما تحمله ريشته من معالم فنية ومفاهيم وأفكار ورؤى عميقة الدلالات، تتجسد في مختلف الاستعمالات التشكيلية لبعث القيم الفنية والجمالية في أعماله الجديدة. فهو يجسد كل مقومات البنية الفنية المتكاملة والمتناسقة بكل ما تحتويه من الأيقونات والتماثليات والمؤشرات التي ترصد العلائق المختلفة بين الدوال والمدلولات، تحضُر في أعماله التشكيلية الجديدة التي سرعان ما تتحول إلى منتوج بلاغي جديد، حيث تنطلق من الموقع الرمزي إلى البعد الدلالي بعدما يعيد تأسيس المشهد الرمزي والعلاماتي وفق خاصيات الشكل واللون، فيعطيه أبعادا ودلالات أخرى، تسمح له بالانغماس في المشهد الجمالي والفني، ليمنح القارئ فرصة قراءة أعماله الجديدة في أبعادها الجمالية والفنية، بنوع من التدقيق والتفاعل الإيجابي، لأنه يغازل مختبر المواد الرمزية والعلاماتية، بتفاصيلها وحيثياتها لينسُج منها موقفا فنيا يضع القارئ أمام عوالم رمزية تُشكّل موضوعا أساسيا في أعماله، إلى أن تكتمل الرؤية التي تقود أعماله الفنية الجديدة إلى التعبير الدقيق عن قيمة الرمز والعلامة والشكل واللون في العمل التشكيلي المعاصر.
والظاهر في هذه التجربة الراقية، هي تلك الرؤية الجمالية التي تحملها أعماله الجديدة في بعدها الجمالي والفني والدلالي المستمد من الرمز والعلامة، وفي اختراقها للمسافة الغابرة في الزمن، ومقاربتها بالعمل الفني المعاصر، لتلتف حول المضامين بتنوع مشاربها. لكن وحدها الرؤية البصرية النقدية تستطيع تخبير محتويات أعماله، والكشف عن فنيات الفنان فائق الذي قاد الفن التشكيلي العالمي بابتكاراته المتجددة إلى أشياء العالم الخفية، من حزمة من الرموز. فغالبا ما يضع شكلا جماليا دالا لهذا المعنى، باعتباره تلك المادة الممتدة في الزمن التي يعود إليها القارئ ليغوص في رحلة فلسفية بين الواقع الفني المعاصر والشكل الرمزي بفلسفته وطقوسه وألوانه، لتشغيل حواسه، وللوقوف عند الرؤية الفنية المُتستّرة وراء حجب اللون والعلامة، فالمبدع يعبُر إليها بأسلوب ممنهج، يفسح المجال لتوظيف المهارات الفنية والتقنيات المتفردة، مما يخدم الأهداف ذات الدلالات والمغازي العميقة. ليقدم منجزا تشكيليا يتجاوز الجاهز ويخرج عن المألوف، لما يحتويه من ما ورائيات وإشارات وعلامات وإيحاءات، لها تأثيراتها الخاصة ومعاييرها الجمالية النوعية في منجزه الجديد.
إن هذا المنجز الجديد الذي تزكيه أعمال الفنان فائق العبودي يُعد طرحا تشكيليا رائدا، يجعل فنه في مصاف الفن العالمي الراقي المعاصر. فاشتغاله على المادة الرمزية والعلاماتية في بؤر تجريدية متنوعة بما يطرحه من إشكاليات فلسفية مختلفة تصب في القيم الفنية والجمالية، والقيم الاجتماعية، وقيم الحياة، والقيم الزمكانية، لاستحضار الرموز ومفرداتها في الشحنات اللونية، حيث الحيادية، والدقة العالية، والتقنية الكبيرة في معالجة الرمز بكل تفاصيله. وهو لاشك وعي من المبدع بقضايا الرمز وأشكاله، وبمستويات اللون المطلوبة التي تتناسب والتثبيت الرمزي والعلاماتي، ووعي بتفاصيل المادة التجريدية. ما يسهم في تنوع الأساس الشكلي برؤية مشدودة بعبَق المعالم الرمزية والعلاماتية، واللون في تقاسيمه الجمالية، وفي دقة توزيع المساحة داخل الفضاء الفني، فيغوص في حضرة التجريد؛ إذ لا يكتفي باستدعاء المادة الرمزية، والاشتغال عليها؛ وإنما يتجاوز ذلك إلى التعبير بالإيحاء والإشارة والدلالة، ليس باعتبار ذلك قيمة بنائية، وإنما كخلفية سنادية تُدللُ على وعي الفنان بأعماق ما تكتنهه المادةُ الرمزية والعلاماتية واللون والشكلُ، وإيلاؤُه لها أهمية كبرى، سواء من حيث طرائق الوضع داخل الفضاء، أو من حيث رصد السمات الجمالية والخبايا المتسترة في حجب الرمز والعلامة. إنه بناء تشكيلي وفني يرسو على التوازن، وعلى عدة مقومات قاعدية تخص الفن التجريدي. وهو يوظف لذلك تلك النظرة الفنية الثاقبة، وحاسته الحادقة؛ حيث تتبدى سحرية أدائه التشكيلي، فيكشف عما تخبئه أعماله من محمولات جمالية تزخر بالتأويل ذي الدلالات المفتوحة. وهذا يُعد ملمسا جديدا وإبداعا مميزا في أسلوب المبدع فائق العبودي الذي لا يتردد في تقديم الجديد تلو الجديد من لوحاته التي ترصد في أدائها الفني التعبيري العلاقة القويمة بين الرمزية والإشارة والمضامين وفق المرجعيات المنبثقة من المجال التشكيلي، ما يمكّنه من تخليد مفردات فنية ذات قيمة عالية في التشكيل المعاصر.
إنه ارتباط وثيق بالمكونات الثقافية والمعرفية التي تؤطر أعماله في جوهرها، وتنم عن أفكاره المتجددة، وخياله المنفتح على مستوى التكوين والإضاءة الرمزية والعلاماتية، وعلى مستوى تشكيل المكان، أو إعادة تشكيله رمزيا؛ وهو ما يضع القارئ أمام أعمال تنطق بمعاني غنية بالمتجددات، في سياق وشائج قائمة بين ما تحمله المضامين والمادة الجمالية في علاقة ترسخ جانبا من التداخل بين كافة العناصر المنفصلة بكل ما تحمله الإشارات من تشعبات دلالية وتأويلات تميز في عمقها الخطاب التجريدي العبودي فائق الجمال، وما تكتسيه لوحاته الجديدة من وظائف بنائية ودلالية تحيل إلى مجال تشكيلي متجدد في تمظهراته الجمالية والشكلية وفي ما تحتويه المادة التجريدية في أسمال الحجب التجريدية، بعمق فني، وفرادة تشكيلية تعج بالإيجابية في التعبير عن العالم البديل. وهو ما يبين الاتجاه الجاذب في هذه اللوحات التي تحتوي فلسفات أخرى جديدة، باستخدامات تحولية، مما يعتبر أنموذجا في عصرنة الأسلوب الفني الذي يقود إلى عوالم توجه الطريقة التعبيرية لدى الفنان فائق العبودي سواء على مستوى الخامات المستعملة أو ما يتعلق منها بتقنيات الطلاء اللوني أو الضربات الصباغية وصناعة الأشكال الجديدة، وزرع العلامات، وتثبيت الرموز، وبسط المساحات، وإرداف اللون على اللون، وتكثيف المساحة، وإغلاق منافذ الفضاء، ما يجعله يقارب أشكال أعماله الفنية بالمادة البصرية. فجمالية هذه اللوحات الإبداعية الجديدة، تجعل من الإيحاءات والرمزية المنبثقة من الواقع الضارب في الزمن تنطق بدلالات أخرى في نطاق مادة فنية تتوافر فيها الرؤية الموضوعية للرمز والعلامة بكل مقوماتهما وتفاصيلهما وتجلياتهما؛ إذ يتم توظيف ذلك وفق أبعاد وقيم، وبطرق فنية يتوخى من خلالها المبدع بسط الصيغ الجمالية، مما يجعل من سياقات أعماله هاته إطارا تعبيريا معاصرا بسياقات جديدة.
ولاشك أن للحركة دورا أساسيا في هذه اللوحات الجديدة، ما يصنع نوعا من التفاعليات بين سمفونية تضرب بجذورها في الزمن، وبين ألوان وأشكال تتراقص في مساحات من البهاء. كما أن جودة التقنيات التي يستعملها المبدع تسهم في عملية المعالجة الرمزية وإبراز هذه الأعمال التشكيلية في رونق وجمال مبهج، فتجربته الفنية الموفقة وخبرته الكبيرة في مجال التشكيل تجعله رائدا في الفن التشكيلي المعاصر.
فهذه اللوحات تمنحنا إحساسا جديدا، وشعورا قيميا ونظرة جمالية فاتنة. استجابة للضرورات الجديدة، إنها أبعاد بائنة تتوافر بشكل قوي في تجربة الفنان الرائد الكوني فائق العبودي. إنه المتفاعل الجريئ مع كل مقومات المنظومة التشكيلية العالمية، ومع مختلف المواد الرمزية، ومع الألوان التشكيلية المتخصصة، ما أنتج لديه أسلوبا تجريديا تعبيريا معاصرا، ينبني على قاعدة تشكيلية معاصرة، باختياراته وتوجهاته المباشرة، التي تستشرف العالم التشكيلي الباسم. بأسلوبه الرائد الخصب الذي يحتوي مجموعة من المعارف التشكيلية والمعالم الفنية والذوقية التي تندرج ضمن نسيج ثقافي واجتماعي وفكري، ورصيد معرفي تشكيلي. إنه يحمل خصائص فنية متفردة وجديرة بالمتابعة النقدية الجادة، لأنه يتوق في الفن التشكيلي المعاصر كل مكوناته ومفرداته وعناصره ومراميه الإبداعية المتطورة، والجماليات التشكيلية، وكل الأساليب التي تنبض بالحياة والتطور، وتهدف إلى إنتاج أعمال فنية راقية.

< بقلم: د. محمد البندوري

Related posts

Top