أبطال ومعارك

لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”

سلسلة من إعداد:  معادي أسعد صوالحة

الحلقة الثامنة

خالد بن الوليد.. ومعركة اليرموك

المعركة التي غيرت مسار التاريخ الإسلامي

هو سيف الله المسلول أبو سلمان خالد بن الوليد بن المُغيرة الذي ينتهي نسبه إلى قبيلة (مرّة بن كعب بن لؤي) الجد السابع للرسول صلى الله عليه وسلم الذي ينتمي إلى قبيلة بني مخزوم أحد بطون قريش التي كانت إليها القبة والأعنة (الخيل)، وذات الشرف العظيم والمكانة الكبيرة في الجاهلية، صاحبة الثراء والجاه لدى قريش بضيعاتها وحقولها وبساتينها التي لا تنقطع ثمارها طوال العام، وفي هذا الجو المَحفوف بالنعيم نشأ خالد بن الوليد وتعلم الفروسية كغيره من أبناء الأشراف مُبدياً نبوغاً مُبكراً ومَهارة عالية في الفروسية والقتال وخفة للحركة في الكرّ والفرّ، الشيء الذي جعل منه فارس عصره بلا منازع بين رجالات قريش المُعادين للإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم والناقمين عليه والتابعين له الذين آمنوا به وناصروه، ومثلهم كان خالد بن الوليد شديد العداوة لهم وشديد التَحامل عليهم حريصاً على مُحاربة الإسلام والمسلمين وفي طليعة المُحاربين في كل المعارك التي خاضها الكفار والمشركون ضد المسلمين (غزوة أحد وغزوة الخندق وصلح الحديبية) حتى أنعم الله عليه بالإسلام، ومنحه النصر المبين في المعركة التي غيرت مسار التاريخ الإسلامي ألا وهي معركة اليرموك الخالدة.

إسلام خالد بن الوليد

لم تمر سوى سنوات قليلة حتى أعلن خالد بن الوليد إسلامه بعد أن قرأ عليه إبن أخيه الوليد بن الوليد ما قاله الرسول عن خالد، وكان ذلك تحديدا في شهر صفر ذو الثامن للهجرة/يونيو 629 للميلاد، وفي هذا يروى لنا في سبب إسلامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للوليد بن الوليد (شقيق خالد) في عمرة القضاء بعد أن سأله عن خالد: “…. ما مثله يجهل الإسلام، ولو كان يجعل نكايته مع المُسلمين على المُشركين لكان خيراً له…، لو جاء خالد إلينا لقدمناه، ومن مثله سقط عليه الإسلام في عقله..”، فخرج الوليد يبحث عن أخيه خالد فلم يجده، فترك له رسالة قال فيها: باسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فأنى لم أرى أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد؟!… وقد سألني عنك رسول الله، فقال أين خالد وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قال له: فستدرك يا أخي ما فاتك فيه…، فسرّ خالد بالرسالة وأعجبه ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عنه فتجشع وأعلن إسلامه وهجرته، وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام خالد سُرّ كثيراً وقال حينما أقبل عليه خالد “…. الحمد لله الذي هداك فقد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير، وأحمد الله الذي أعز الإسلام بخالد وأعز خالد به..”، وتحول حينئذ عداؤه من الإسلام والمسلمين إلى مَحبة وتراحم، وانقلبت موالاته للكفار إلى عداء سافر وجولات مُتلاحقة من الصراع والقتال، وكانت أولى حلقات الصراع تلك حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بسرية الأمراء إلى مؤتة للقصاص من قتلة الحارث إبن عمير رسوله إلى صاحب بصرى، وكان من بين عناصر جيش زيد بن حارثة الذي سرعان ما استشهد بالمعركة هو وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحه، ليتولُى خالد بن الوليد الجيش بعد أن أوشك على الهزيمة، ويُعيد النصر إلى صفوف المُسلمين الذي قال الرسول بعد علمه بذلك: “… اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره”، فسمّي حينها خالد بسيف الله المسلول.

معركة اليرموك

مع بدايات العام 12هـ/633م وبعد أن قضى أبو بكر على فتنة الردّة التي كادت أن تمزق الأمة وتقضي على الإسلام (وشارك فيها خالد بن الوليد)، توجه أبو بكر لمدينة البصرة بالعراق بغية تأمين حدود الدولة الإسلامية وكسر شوكة الفرس المُتربصين بالإسلام، فأعاز المُهمة إلى خالد بن الوليد الذي استطاع أن يحقّق عددا من الانتصارات على الفرس في الابّلة والمذار والولجة، مواصلا تقدمه نحو الحيرة التي فتحها وفرض على أهلها الجزية دون القتال وإراقة الدماء، وفي هذا يروي لنا محمد السيد الوكيل في كتابه (جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين) ويقول: “…عندما اشتدّت الحروب بين جيوش المُسلمين وجيش الروم الذي كان يَسير لفتح الشام وتحرير فلسطين، كان خالد بن الوليد يحقق الانتصار تلو الانتصار في جيوش الفرس بالعراق، فرأى أبو بكر الصديق بأن يتجه جيش خالد للحاق بجيش أبو عبيدة وعمر بن العاص وشرحبيل بن حسنة للقاء الروم في واقعة اجنادين التي انتصر فيها المسلمون وألحقوا هزيمة نكراء بجيش الروم حيث كان يقول أبو بكر: “… والله لأنسيّن الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد..”، فلم يخيب خالد آمال أبي بكر واستطاع فتح الشام وهزم الروم في واقعة اجنادين في فلسطين، وأدرك حينها هرقل الذي كان يقيم في حمص حجم الكارثة التي حلّت به وبجيشه، فسارع إلى لمْلّمَة ما تبقى من جيشه لمُلاقاة المُسلمين في واقعة اليرموك (يقع وادي اليرموك على الحدّ الفاصل بين الجولان العربي السوري المُحتل وفلسطين المحتلة) التي استطاع خالد بن الوليد من جديد إلحاق الهزيمة بالجيش البيزنطي الذي كان يتألف من خمس جيوش مستقلة (ماهان جيش أرمينيا، قناطير السلافي الذي قاد جيشه من الشعوب السلافية، جبلة بن الأيهم الغساني ملك الغساسنة على رأس جيش المسيحيين العرب من راكبي الخيول والجمال، وهرقل الذي قاد الآلاف من مقاتلي الروم)، وما أن وصل الخبر إلى خالد بن الوليد حتى أعاد تنظيم الجيش، فجعل ربع جيش المسلمين من الخيالة (10 آلاف مقاتل) وقسّم الجيش إلى 36 كتيبة (كرداس) من المشاة، اثنان في القلب وجناحان في الميسرة والميمنة جاعلا من كل كتيبة لواءا خاصا للاستطلاع ومراقبة أرض المعركة كاملة التي تمتد خطوطها إلى 11 ميلا، بحيث يتجه المسلمون غرباً في مواجهة الروم وإلى الجنوب (يمين الجيش الرومي) بمحاذاة نهر اليرموك، حتى استطاع بفضل تكتيكاته العسكرية إحراز النصر المبين لصالح المسلمين، فعن السماك بن حرب عن عياض الأشعري رضي الله عنه قال: شهدت اليرموك وعليها خمسة أمراء هم أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمر بن العاص وخالد بن الوليد…”.

انتصار وفرار

ويضيف الكاتب: “…كانت المعركة قد استمرت ستة أيام متواصلة، أخذ فيها المسلمون يَردّوُن فيها هجمات الروم في كل يوم، أما خالد بن الوليد فقد كان يقود سرّية الخيالة المُتحركة السريعة التي يتحرك فيها بسرعة خاطفة من مكان إلى آخر مُوهما الروم بوجود أعداد هائلة من جيش المسلمين في كل حدب وصوب موقعا خسائر بأعداد كبيرة في صفوفهم، وتبدأ فيما بعد المعركة بالتراشق بالنبال (بعد انتهاء المبارزات الفردية) التي تسببّت بإصابات كبيرة في صفوف المسلمين، ويلتحم بعدها الجيشان ويَحسم خالد بن الوليد المعركة لصالح المسلمين بعد اندحار القوات البيزنطية التي سقط معظمها في الأسر بعد أن قطع خالد بن الوليد رأس قائده (ماهان) بعد ملاحقته إلى دمشق حيث صرخ حينها: والله قد قتلت هامان…!!، ويقرر قيصر الروم (هرقل) اللوذ بنفسه هاربا إلى القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية آنذاك، وفي هذا يقول ابن الأثير في كتاب الكامل: وسار هرقل، فنزل بشمشاط، ثم أدرب منها نحو القسطنطينية، فلما أراد المسير منها علا على نشز ثم التفت إلى الشام فقال: السلام عليك يا سورية، سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً!!، وانطلق الشعراء مع انتهاء المعركة العظيمة يتغنون بها إكباراً وتقديراً وفخراً، واصفين إياها بملحمة من ملاحم التاريخ، وفي هذا أخذ يقول أحد أبطالها وهو الأسود بن مقرن التميمي رضي الله عنه:

وَكَم قَد أَغرنا غارَة بعد غارَة
يَوماً وَيَوماً قَد كَشَفنا أَهاوِلَه
وَلَولا رجال كان عَشر غَنيمَة
لَدى مَأقط رجت عَلَينا أَوائِلَه
لَقَيناهُم اليَرموك لما تَضايَقت
بمَن حَلَّ بِاليَرموك منهُ حَمائِله
فلا يَعدَمن منا هرقل كتائِباً
إِذا رامَها رامَ الَّذي لا يحاوِله
رحيل على فراش الموت

بهذا الفتح العظيم، توالت انتصارات وفتوحات خالد بن الوليد حيث فتح دمشق وحمص وقنسرين وغيرها من المناطق الإسلامية التي سرعان ما خضعت له، لكن الرحيل سيكون سريعا بعد أن وافته المنية بمدينة حمص السورية يوم الثامن عشر من رمضان 21هـ/20 غشت 642م مُشتاقاً إلى الشهادة والدموع تنهمر مُنسابة من عينه وهو على فراش الموت، وقد انطلق يشدو بكلماته الأخيرة التي تقول: “والله لقد حضرت زحفا ومكرا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو رمية سهم أو طعنة رمح، وها أنا أموت على فراشي حتف انفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء..”، وحينما سمع عمر بن الخطاب بوفاته قال: دع نساء بني مخزوم يبكين على أبي سلمان فإنهن لا يكذبن، فعلى مثل أبي سلمان تبكي البواكي..”.

الوسوم ,

Related posts

Top