نصوص مغربية وعالمية من أدب الوباء

واكب الإبداع الأدبي في مختلف مراحله الزمنية، المحطات الكبرى التي تمر بها البشرية، ومن بين هذه المحطات بطبيعة الحال، الوباء أو الجائحة، وما ينتج عنها من جوانب سلبية وإيجابية كذلك. في هذه النصوص نجد الذات والمجتمع في صراع مع عدو غير مرئي، وتلك هي سر قوته وطغيانه. من خلال حلقات هذه السلسلة إذن، نقف على عينة من النصوص الإبداعية المغربية والعالمية ومدى تفاعلها مع الوباء، حاضرا وماضيا على حد سواء.

< إعداد: عبد العالي بركات

الحلقة السادسة

كورونا

< بقلم: حسين مهنّا

 استيقظَ السَّيّد فرج من دونِ ساعةِ مُنبّه.. فمنذُ أَن خرجَ إلى التَّقاعدِ لم يعدْ بحاجةٍ إلى ساعةٍ آليَّة.
خاصَّةً وقد نَمّت بداخِلِهِ ساعتَهُ البيولوجيّةَ.. يقولُ أَهلُ المعرفةِ إِنَّ بداخلِ كُلِّ إِنسانٍ ساعةً بيولوجيَّةً تنظِّمُ لهُ عاداتِهِ اليومِيَّةَ بِأَوقاتِها كالاستيقاظِ وساعةِ القيلولةِ والجلوسِ إلى الطّاولةِ وقتَ العشاء.. وموعدِ الذّهابِ إلى الفِراش… وليسَ بالضَّرورةِ أَن تُنجَزَ هذهِ العاداتُ بالدَّقيقة.. وهذا ما اعتادَ عليهِ السَّيّدُ فرج.. واعتادَ أَيضًا بعد أَن يستيقظَ صباحًا أَن يظلَّ في الفراشِ يتقلَّبُ من جنبٍ إلى آخرَ يستمعُ إلى أخبارِ ذاكَ اليوم، ولا ينهضُ من سريرِهِ قبلَ أَن يشحنَ روحَهُ بشِحنةٍ رحبانيَّةٍ تُفتِّحُ أَمامَهُ أَبوابَ الأَملِ، وتجعلُ شيخوخَتَهُ أَكثرَ طراوة.
      ولكنّ السّيّد فرج، ومنذ أَن اجتاحَ العالمَ فيروس كورونا هذا، زادَ شغفُهُ بالاستماعِ إلى نشراتِ الأَخبار.. ليس خوفًا لا.. لا.. ولكنّه قَلَقُ الماركسيِّ على مصيرِ البشَريّةِ من هذا الخطرِ الدّاهمِ، والّذي وضعَ العُلماءَ في موضعٍ لا يُحسدونَ عليه.. بعد كلِّ هذا المُنجزِ الحضاريِّ يظهرُ فيروس حقيرٌ لا يُرى إِلّا بِمُجْهِرٍ خاصّ فيعيدُنا الى جدليَّةِ الشَّكِّ واليقين.. أَينَ نحنُ…؟ – يحدِّثُ نَفسَهُ – هل نعيشُ في وَهْمٍ اسمُهُ تقدُّمٌ عِلمِيٌّ ؟ وما نفعُ الحضارةِ إِذا كانت حياةُ البشَرِ في خطرِ إِبادةٍ والعِلمُ بِكُلِّ فَخامَتِهِ يقفُ عاجزًا خَجولًا… يستَدِركُ ويُتمتِمُ.. لا.. لا.. العلمُ الّذي أَخرَجَ البَشَريَّةَ من آفاتٍ لا تَقِلُّ فَظاعةً عن الكورونا هذهِ، لا بُدَّ من أَنْ يجدَ مَخرَجًا لِلبشَرِيَّةِ عاجِلًا.. أَو.. أَو… آجِلًا.
         وكان السَّيِّدُ فرج يعتقدُ أَنَّهُ آخِرُ مَنْ يضيقُ صدرُه بالحَجْرِ الصِّحّيِّ المنزِليّ.. فهو بعدَ ما مَرَّ عليهِ من سَنَواتٍ عجافٍ وأُخرى سِمانٍ، أَصبحَ لا يجدُ الرّاحةَ الحقَّةَ إِلّا في بيتِهِ إلى جانبِ زوجتِهِ وأَحفادِه الّذينَ قلّمّا يخلو البيتُ منهم؛ أَمّا إِذا خرجَ فَلِعِيادةِ قريبٍ أَوصديقٍ أَو مُرافقةِ زوجتِهِ للتّسوُّقِ أو إلى عيادةِ طبيبِ العائِلةِ لِشأنٍ صحّيّ.
      ليس عندَ السّيّد فرج وقتٌ ضائع.. فوقتُه موزَّعٌ – يوميًّا تقريبًا – ما بينَ العِنايةِ بِحديقتِهِ الصَّغيرَةِ من نِكْشٍ وتَعشيبٍ وتّشذيبٍ وإِرواء.. أَو استقبالِ زائرٍ أو قراءةِ كتابٍ أَو جريدةٍ.. أَو القيامِ بأعمالٍ منزليَّةٍ يجيدُها كَتغييرِ صُنبورِ ماءٍ تالِفٍ، أَو فَتْحِ انسِدادٍ في ماسورةِ إِحدى المَغاسِل.. وكثيرًا ما يساعدُ زوجتَهُ عندَ إعدادِها للطَّعامِ كتحضيرِ السَّلاطَةِ.. أَو عِندَ إِعدادِها.  لِلمناقيشِ.. 
       والسّيّدُ فرج يعتبرُ نفسهُ هادئَ الطَّبعِ رقيقًا عطوفًا.. يشهدُ بذلكَ كُلُّ مَنْ عَرَفَهُ.. حتّى زوجتُه تقولُ بشيءٍ من الزُّهُوِّ بين نساءِ الحارةِ حينَ يتحدَّثنَ بطبائِعِ الرّجالِ: الّذي عندي (تقصدُ زوجَها السّيّد فرج) هادئٌ لدرجَةِ أَنَّني أَتمنّى لو يصرُخُ في وجهي يومًا. 
       ولكِنَّ ضيقَ الصَّدْرِ بَدَأَ يَتَسَرَّبُ إلى أَعصابِهِ قَليلًا قَليلًا.. تَعليماتُ دائِرَةِ الصِّحَّةِ مُشَدَّدَة.. لا استِخْفافَ بِها.. الإِقامَةُ المنزِلِيَّةُ الإِجباريَّةُ مَقدورٌ عليها، ولكنَّ الخروجَ من المنزِلِ بِكِمامَةٍ وقُفّازَينِ، فهذا أَمْرٌ غيرُ مَقدورٍ عَليه. يضْحَكُ…عادَتْ بهِ ذاكِرتُهُ إلى أَيّامِ البيادرِ، إِذْ كانوا
يَكُمّونَ الدَّوابَّ على البيدَر عندَ دَرْسِ الحصيدِ لِئَلّا تُعيقَ عَمَلِيَّةَ الدّرْسِ بِرَمِّها المَدروسَ مِنَ الحِنْطَةِ مَرَّةً بعدَ مَرَّة.
      لَن يخرُجَ السَّيّد فرج من بَيتِهِ بِكِمامَة.. سيكتفي بالخروجِ إلى الحديقَةِ.. كانَ قد قَرَأَ في كِتابٍ ما.. أَنَّ الجلوسَ في مكانٍ هادِئٍ والتَّأَمُّلَ في كُنْهِ الأَشياءِ الّتي يراها تَقتُلُ الإِحساسَ بِالفَراغِ، وتُؤَخِّرُ ظاهِرةَ الخَرَفِ عند الشُّيوخ.. فإِذا نظَرتَ إلى شجرَةٍ مثَلًا لا تمِلْ بوجهِكَ عنها قبلَ أَن تَسْتَرَسِلَ عائِدًا بذاكرتِكَ إلى مَدْرَسَتِكَ الأُولى يومَ تَعَلَّمتَ أَنَّ للشَّجرةِ جُذورٌ.. ولها ساقٌ وفروعٌ وأَغصانٌ وأَوراقٌ وثمرٌ، إِذا لم تكنْ لِلزّينة،.. وهي مَأْوىً لِلعصافيرِ وبَهجَةٌ لِلنّاظِرينَ وملاذٌ ناعِمٌ للمُسْتَظِلّينَ.. و.. و.. وهذا أَيضًا يجعلُ وَحْدَتَكَ مُسَلِّيةً وأَعصابَكَ هادِئِة. هذا إلى جانِبِ الموسيقى من كلاسيكِيّةِ إلى حديثَةٍ، وصولًا الى موسيقى (الرّاب).. سأَلَهُ صديقٌ: كيفَ تجمعُ بينَ الاستماعِ إلى أُم كلثوم وبين الاسْتِماعِ إلى الرّاب!؟ أَجابَ بابْتِسامَةٍ رَقيقَةٍ: الاستماعُ يا صاحبي إلى السِّت أم كُلثومِ سكونُ الماضي الَّذي عِشْناهُ، وأَمّا (الرّاب) فَحرَكَةُ الزَّمنِ الآتي الّذي سيعيشُهُ أَحفادُنا… ضَحكَ الصَّديقُ وقالَ: ها قد دَخلْنا في الفَلسَفَة!…وداعًا. 
      كُلُّ هذهِ الأَفكارِ قد تَلَبَّسَتْهُ وهو مُسْتَرخٍ تحتَ شجرَةِ المَندَلينا في كُرسِيِّهِ المُريحِ ما بينَ نُعاسٍ ونوم.. وفَجْأَةً ظَهَرَتْ لهُ جَنازَةٌ من بعيدٍ.. أَربَعَةُ رِجالٍ يحملونَ التّابوتَ.. أَفرادٌ معدودونَ يسيرونَ وراءَ الجنازةِ!.. مِسكينٌ هذا المُتَوَفَّى، قالَها  في نفسهِ مُترَحِّمًا.. لقد أَكَلَتْهُ الكورونا  بعد أَن سلبتْهُ أَثْمنَ ما عِندَه… حُرِّيّتَهُ.. ومَنَعت عنْهُ أَحفادَهُ وبناتِهِ وأَبناءَهُ وأَصهارَهُ والّذين أَحبَّ مُجالَسَتَهُم منَ الأَصدِقاء.. أَذَلَّتْهُ بالكِمامِةً والقُفّازينِ.. وها هو يُودِّعُ الدّنيا بصمتٍ..لا مُشيِّعونَ ولا كَلِماتُ تأْبينٍ ولا نادِبات.. الجنازةُ تقترِب.. لقد أَصبَحَتْ على مرمى حجر.. تُرى جنازَةُ مَنْ هذهِ؟..على غيرِ عادَةِ المُشيِّعينَ، أُنْزِلَ التّابوتُ عن الأَكتافِ وجلسَ حامِلوهُ يرتاحونَ.. لِدَهشَةِ الحاضرينَ.. تَحرَّكَ غِطاءُ التّابوتِ وأُلْقِيَ بعيدًا.. وخرجَ المتوفّى منهُ غاضِبًا غيرَ مُبالٍ بِمَنْ حَولَهُ.. نظرَ الى السَّماءِ وصاحَ بِكُلِّ ما أَمَدَّتْهُ شَيخوخَتُهُ من قوَّة… يا الله..! كم تمَنَّيتُ عليكَ أَن أَموتَ من أَجلِ أَمرٍ جَلَل.. وها أَنَذا أَموتُ في الزَّمنِ الخطإِ  بسَبَبِ جرثومَةٍ ماكٍرة.. لا كلماتِ تأْبينٍ أَسمعُ.. لا مُشَيِّعينَ أَرى…!! قالَ هذا وجثا على رُكبتَينِ هَزيلَتين.. وشَرَعَ يبكي بُكاءً مُرًّا.. ونظَر السَّيِّدُ فَرج مدهوشًا مُشوَّشًا كالحاضِرينَ، الى هذا المَيِّتِ الحيّ.. وراحَ يحدِّقُ.. ويحدِّقُ.. صاحَ:
يا لَلهَول! كَم يُشْبِهُني بل يكادُ يكون أَنا ! بل هو أَنا وهذهِ الجنازَةُ الباهِتَةُ جَنازتي.
       عَطْسَةُ زَوجَتِهِ الّتي كانت قد جلسَت إلى جانِبِهِ جاهِدَةً أَلّا توقِظَهُ.. أَيقظَتْهُ.. نَظَرَ إليها نَظْرةَ مَنْ خرجَ مِنَ قبْرٍ وعادَ إلى الحياة!.. قالَتْ مُتأَسِّفةً: أَيقَظْتُكَ!.. قالَ وكانَ قد استردَّ كامِلَ وعيِهِ: بل ما أَجمَلَ ما فَعَلْتِ.. ما أَجْمَلَ ما فَعَلْتِ.

Related posts

Top