أبطال ومعارك

لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”

الحلقة الرابعة

محمد الفاتح.. ومعركة القسطنطينية

المعركة التي ساعدت في قيام دار الإسلام أو مقر الخلافة الإسلامية

“…..بعد النجاح الكبير الذي حققه السلطان مراد الثاني وابنه محمد الفاتح في دحر القوات الأوروبية الصليبية الغازية له في البلقان، بدأ الأمل يتجدّد من جديد لفتح القسطنطينية التي طالما حلم سلاطين الدولة العثمانية بفتحها، فشاءت الأقدار بأن تكون على يد محمد الفاتح ليكون صاحب البشارة والفتح العظيم”، هكذا أخذ يطلعنا الكاتب علي محمد الصلابي في تقديم كتابه الذي تناول حياة القائد العظيم “السلطان محمد الفاتح: فاتح القسطنطينية”، ويضيف بالقول: “….لقد حفل التاريخ الإسلامي بالعديد من الملاحم الضارية بين الدولة الإسلامية ودول الكفر والضلال التي حملت السيف في وجه الحق والدين، فما كان من المسلمين إلا أن حملوا لواء الإسلام وتوغلوا في عمق دول الكفر والضلال، وبرزت العديد من الأسماء التي نُقشت بماء من ذهب وكانت مثالا للمحارب الباسل المغوار من جيوش المسلمين، وأذاقوا الويلات للكفار وحفلت كُتب التاريخ بأسمائهم وقصصهم حتى باتت أسماؤهم علماً في قعر ديار الأعداء يُحسب لذكرها ألف حسابٍ وحساب، وكان من بين هؤلاء السلطان العظيم محمد الفاتح..”.

ولادة الفاتح

إنه السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح سابع سلاطين الدولة العثمانية وسلالة آل عثمان، ويُلقّب بالفاتح نسبة إلى أهم فتح في تاريخ الدولة الإسلامية وهو فتح القسطنطينية، فله يُعزى القضاء نهائيًا على الإمبراطورية البيزنطية بعد أن استمرّت أحد عشر قرنا ونيفا، ويعتبر العديد من المؤرخين هذا الحدث بأنه نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة، فقد ولد الفاتح في (أدنبرة) عاصمة الدولة العثمانية آنذاك يوم السادس والعشرين من رجب سنة 833 هجرية/العشرين من أبريل 1429 ميلادية)، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سابع سلاطين الدولة العثمانية، فتعهده بالرعاية ليكون جديرا بالسلطنة والنهوض بتبعاتها من بعده، فحفظه القرآن والحديث وعلّمه الفقه والرياضيات والفلك، وأتقن فنون الحرب والفروسية والقتال واشترك في الحرب والغزوات تحت راية والده، وتولى الحكم بالسلطة العثمانية بعد وفاته (والده مراد الثاني وعمره لا يتجاوز بعد الثانية والعشرين فقط) شديد العزم والطموح على تحقيق أحلام الدولة العثمانية التي كان من أهمها فتح القسطنطينية، فحمل الصفات العظيمة والنبيلة حتى كفاه شهادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال: “…لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشها”.

قلعة الأناضول

امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال، وشهد حكم القائد محمد الفاتح العديد من الفتوحات الإسلامية غير القسطنطينية أشهرها فتح بلاد موره ومحاربة المجر وتوحيد الأناضول وفتح البوسنة وإمارة قرمان وجزر اليونان ومدينة أوترانت وغيرها من البلاد والمدن التي ضمها للدولة الإسلامية وزاد من عظمتها، وفي هذا يروي لنا محمد سالم الرشيدي (السلطان محمد الفاتح) بالقول: “….كان السلطان (بايزيد الأول) قد أنشأ على ضفة البوسفور الأسيوية، أثناء حصاره للقسطنطينية، حصنا تجاه أسوارها عرف باسم قلعة الأناضول، فسارع محمد الفاتح في بناء قلعة أخرى على الجانب الأوربي من البوسفور لمواجهة أسوار القسطنطينية، فجلب لها مواد البناء وآلاف العمال واشترك بنفسه مع رجال دولته في أعمال البناء والتشييد حتى ألهب القلوب وأشعل الحمّية في النفوس، وبدأ البناء في الارتفاع في الوقت الذي كان فيه الإمبراطور قسطنطين لا يملك حرّية وقفه مُكتفياً بالنظر حزنا وهو يرى أن الخطر الداهم سيحدق به لا حالة دون أن يملك من دفعه شيئا، فأمضى يتوسّل إلى السلطان محمد الفاتح بالعدول عن إتمام القلعة التي ستشكل خطراً وتهديداً له، لكن السلطان العثماني أبى ذلك واستمر في عمليات التشيّيد والبناء التي فرغت بانتهاء شهور قليلة وبدت على هيئة مثلث سميك الجدران في كل زاوية برج ضخم مُغطى بالرصاص، يحيط بها مدافع ضخمة رابضة على الشواطئ مُصوّية أفواهها باتجاه البحر لمنع السفن الأوربية من المرور في بوغاز البوسفور…”.

فتح القسطنطينية

بدأ الإمبراطور قسطنطين في تحصين المدينة من الداخل بعد أن فشلت محاولاتهم في ردع محمد الفاتح عن بناء وتنفيذ مخططه….، وبدأ الفريقان يتأهبان للهجوم والهجوم المضاد …، لكن أسوار القسطنطينية (رغم قلعته التي بناها) ترفض الاستسلام والخضوع …، فساقت الأقدار إلى محمد الفاتح مهندسا مجريا يدعى “أدربان” عرض على السلطان بناء مدفع ضخم يقذف قذائف هائلة للثم أسوار القسطنطينية العتيدة، فسرعان ما تم بناء هذا المدفع الضخم وتم إحضاره صحبة الجيش العثماني الذي يرابض بحصاره خارج أسوار القسطنطينية في الخامس من أبريل 1453 ناصبا سرادقه ومراكز قياداته أمام باب القديس “ردمانويس”، ليبدأ الحصار الفعلي بعد تحرك الأسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة من مدينة “جاليبولي” (قاعدة العثمانيين البحرية) عبورا ببحر مرمرة إلى البوسفور الذي ألقى السفن مراسيها هناك لتطوّق بذلك القسطنطينية من البحر والبر بقوات بلغ تعدادها 256 ألف مقاتل، وما أن أحسن السلطان محمد الفاتح ترتيب وضع قواته أمام أسوار القسطنطينية حتى باتت مدافع العثمانيين تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار دون انقطاع، فكان دوّي المدافع واصطدام القذائف بالأسوار يملأ قلوب أهل المدينة فزعا ورعبا، وكان كلما انهدم جزء من الأسوار سارع المدافعون إلى تشييدها من جديد، واستمر هذا الحال على هذا الوضع: هجوم جامح من قبل العثمانيين ودفاع مُستميت يبديه المدافعون وعلى رأسهم الإمبراطور قسطنطين.
ويضيف لنا محمد سالم الرشيدي بالقول: “… استمر الحصار بطيئا مرهقا والعثمانيون يضربون أسوار القسطنطينية دون هوادة وأهل المدينة المحاصرة يعانون نقص المؤن ويتوقون إلى سقوط مدينتهم بين يوم وآخر، وظل الحال كذلك حتى فجر يوم 21 من مايو 1453 ميلادية حين قام السلطان العثماني بتوزيع قواته وحشد زهاء 100 ألف مقاتل أمام الباب الذهبي للقسطنطينية، وحشد في المسيرة 450 ألفا وانتشرت في الميناء 70 سفينة، ليبدأ الهجوم النهائي براً وبحراً ويشتد لهب المعركة وقذائف المدافع التي تشق عنان السماء مصحوبة بتكبيرات الجنود التي تسمع صداها من أميال بعيدة حتى امتلأ الخندق الخارجي للسور بآلاف القتلى والجرحى، فاندفع العثمانيون بسلالمهم نحو الأسوار غير آبهين بالموت الذي يحصدهم من كل جانب…، فوثبت جماعة من الانكشارية إلى أعلى السور وأفسحت الطريق للمقاتلين الذين سرعان ما تمكنوا من العدو وتدفقوا داخل المدينة وفتح أبوابها، لينجح العثمانيون في رفع السلسلة الحديدية التي وضعت في مدخل الخليج ويتدفق الآلاف من الجيش داخل المدينة التي سادها الذعر وفرّ المدافعون من كل ناحية….، وما هي إلا ساعات قليلة حتى سقطت المدينة تحت أقدام الفاتحين التي خرّ فيها محمد الفاتح لحظة دخولها ساجدا شكراً لله على هذا الظفر والنجاح العظيم، ليقرّر اتخاذها عاصمة للدولة العثمانية…”.

إسلام بول.. مقر الخلافة

كان السلطان محمد الفاتح قد أعد العدّة لفتح القسطنطينية لمكانتها المهمة في العالم، إذ تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها “…لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها..”، وعندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع، فقد امتدت إليها يد القوات المُسلمة المُجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الإسلامية عليها سنة 44هـ ولم تنجح هذه الحملة، وقد تكرّرت حملات أخرى في عهده حظيت بنفس النتيجة، فكان محمد الفاتح يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها وبذل جهوده المُختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وتقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون جندي، وهو عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عنى عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة، وفي هذا يضيف محمد سالم الرشيدي: “… كان محمد الفاتح قد قام بتجهيز جيشه بأقوى المعدات الحربية من المدافع الضخمة والسفن الحربية المجهزة بكل أنواع الذخيرة، وبرزت حنكته العسكرية في معركة القسطنطينية عندما تمكن من دخول القرن الذهبي في البحر قرب القسطنطينية بعدما أمر الملك قسطنطين بإغلاقه بالسلاسل الضخمة بعد علمه بهجوم المسلمين، ونقل السلطان محمد الفاتح قرابة سبعين سفينة من سفن المسلمين لداخل القرن، وقام بنصب المدافع وتجهيز جيشه للقتال بعد أن رفض قسطنطين الاستسلام حتى قتل في المعركة، وكان لخبر مقتله دور كبير في زيادة حماسة المسلمين واستيلائهم على المدينة، بعد هذا النصر ضم القائد محمد الفاتح القسطنطينية لحكمه وأطلق عليها اسم (إسلام بول) أي دار الإسلام ثم حُرفت إلى (إستانبول) واتخذها عاصمة ومقرا للدولة الإسلامية، وبقيت تحمل هذا الاسم حتى العام 1924 الذي شكل تاريخ سقوط الخلافة العثمانية وقيام دولة تركيا الحديثة التي اتخذت من أنقرة عاصمة لها..”.

الوسوم ,

Related posts

Top