اكتشاف مآثر عمرانية وحقائق تاريخية

استهل الكاتب المغربي عبد الله صديق كتابه في أدب الرحلة “طبق الغموض” الذي يقع في119صفحة بالإفصاح عن شعوره تجاه مدينة سكنت روحه وباله، وتعلق قلبه بها أيما تعلق، مفتتحا قوله بعبارة توحي بدرجة حبه لها يقول “لطالما كان التفكير فيها يخلق عندي شعورا يشبه انتشاء الوصال عند المغرمين، هي التي كان لها في مخيلتي صورة لا تشبهها صور المدن الأخرى ” ص 13
ففي كتابة هذه اليوميات، التي غطت ثمانية أيام من أبريل 2017، استطاع توثيق والتقاط كل المشاهد المرئية اللافتة 
عبر متعة العين (المعمار والجداريات والكتابات على الجدران والعارضات التشويرية وصور الأمكنة والواجهات…) فيما أصغت أذناه لكل الأصوات المسموعة (صياح الباعة، الآلات الموسيقية، أغاني فيروز، الطرب، أجراس الكنائس، زقزقة العصافير)  واندهش لكل ما طاب ولذ من كل أصناف الأطعمة والمأكولات ، والتي تشابه في كثير منها تلك الموجودة في بلده المغرب ( زيت ويتون ، بيض ، حساء ، شاي..).
وهكذا يستحضر عبر متنه السردي  أهم ما يشده إلى هذه المدينة الغالية من عناصر طبيعية أضفى عليها توصيفات غاية في الجمال بلغة مغرية نافذة إلى القلوب، تجعل القارئ  ينصهر مع تفاصيل حياة مدينة متفردة في  العادات ، في صورة إمرأة تنعم بجمال خارق ، إنها مدينة بيروت المترامية الأطراف في أشكال هندسية غاية في الجمال والدقة المعماريين.
هكذا كانت بيروت المدينة الهادئة  التي استهوت قلب الرحالة المغربي عبد الله صديق ، وهكذا صارت مع مرور  الأيام والأعوام  تتبدل وتتسع في أغاني  الرواد  وكتاب  عصر الأنوار وفي قصائد محمود درويش ونزار قباني وسرد صنع الله إبراهيم، فحضرت في كل متونهم الشعرية والسردية بصورتها الفاتنة فهي المدينة صاحبة التلال والجبال والبحر المدينة المنتصرة في كل حالاتها، وافتتن بها الكاتب عبد الله صديق منذ الوهلة الأولى من خلال حضورها في الشعر والغناء،
لم يكن الكاتب عبدالله صديق يحلم  ليوثق لمغامرات رحلاته لوحده ، بل أشترك مع أصدقاء انخرطوا في سرد حيثيات رحلات ظلت عالقة في الذاكرة ، حميد يسرد من حلم  يقظته  رحلته إلى مدينة بعيدة كان يحلق برفاقه إلى نيويورك ، محمد يسافر حلما من وجدة إلى  فضاء كازا بلانكا الشاسع بمظاهره المتنوعة ، فيما خالد كان يتوق للسفر إلى أمستردام ، أما السارد يتعلق بفاتنته الساحرة بيروت ، فيروي تفاصيل رحلة لم تكن كسابقاتها، هي أحلام يقظة  قديمة تحققت. يقول السارد “خمسة وعشرون عاما مرت ، وجوه  كثيرة صارت صورا، إنتصارات صغيرة وخسارات، صفحات طويت وأسفار، قصص حب ولدت وشاخت ، روايات كتبت، وأنشدت أشعار ، اشتعلت حروب ، واحترقت مدن، تحطمت أسوار وانبعثت من تحت ركام ، ذلك كله حلم يقظة قديم، انبعث ليتحقق “ص15. هكذا  سيعانق الرحالة حلمه الذي راوده مذ كان يبدد ضجر مدينة مغربية مهمشة تقع على الحدود مع الجارة الشرقية، وهو يسير بمحاذاة سكة القطار ويسرد لأصدقائه رحلة تسكن الوجدان وتسيطر على الكيان.
ينقلنا كاتب رحلة “طبق الغموض”  إلى أجواء سفره إلى بيروت  عبر الطائرة أي عبر باب بيروت السماوي وهو الباب الذي فضل ألا يلج  المدينة عبره، نظرا لما يرافقه من إجراءات صارمة ومراقبة مبالغ فيه، لاتجعل  العين تتمتع بما حولها ، هكذا ولج المدينة بحرا بعدما حطت  الطائرة في مطار رفيق الحريري”.
وكأن الرحالة يكاد يجزم بأن الأبواب الأخرى التي تلج عبرها المدينة تنعم بالأمن الذي عاشه وهو يطأ قدمه بيروت عبر منفذها البحري ،ومنها الباب البري الذي لا يحجب الرؤية الأولى ،لذلك فهو دائما ما يفضل أن يكون لقاءه الأول بمدينة ما من بابها البري.
وتتوخى نصوص رحلة طبق الغموض استكشاف الوعي بالذات والآخر، الذي تشكل عن طريق أدب الرحلة والأفكار التي تسربت عبر سطور  الرحالة، والإنتباهات التي ميزت نظرتهم إلى الدول والظواهر والأفكار والعادات والتقاليد ، وبذلك فأدب الرحلة هو مادة سردية تتناول الطريف والغريب والمهمش، فيما ترصدته عيون تتجول وأنفس تنفعل بما تراه.
إن الرحالة  لم يتعامل مع الأمكنة باعتبارها محطات عبور، لكنه تعامل مع تفاصيلها التي كشفت عن  عناصرها الثقافية والجمالية وذلك في تجاوز للرؤية التي تتعامل مع الأمكنة باعتبارها محطات طبيعية وعمرانية لا تتجاوز حدود البصر مما يحول الرحالة إلى سائح عابر لم يطرق أثر في المكان ولا أثر لهذا الأخير في ذاكرته ووجدانه دون ملامح ابداعية وجمالية ، فضل أن يوثق لها بالصورة والكلمة المعبرة، إذ لم  يتوانى في أن يضمن كتابه بصور شخصية له في أمكنة معينة حفرت ذكرياتها في ذاكرة الكاتب عبدالله صديق.
والأكيد أن كتاب” طبق الغموض.. أيام في لبنان”  يأخذ القارئ إلى اكتشاف مآثر عمرانية وحقائق تاريخية لم يسبق له أن تعرف عليها أو سمع بها، فالكاتب أفاض في الحديث  عن جزئيات  الأمكنة والتي تعلق قلبه بها سواء من خلال هندستها الأنيقة وجمالية الزخرفة والنقوش
 ، وما عاد يطيق مغادرتها فهي تغري بالبقاء طويلا ، رغم أنه لم يسمح له بالمكوث أكثر من اللازم حين قاده حب الإستكشاف إلى زيارة بعض مآثر لبنان  ، أمكنة مبهرة وأخرى لم تكن كذلك يقول :”…. انطلقنا سيرا على الأقدام ، كان أول معلم صادفناه في طريقنا هو مسجد الإمامين الحسين ، وهو مجمع  يضم إلى جانب المسجد ، مركزا ثقافيا ومكتبة عامة وضريح المرجع الشيعي  حسن فضل الله ، الزعيم الروحي  لشيعة لبنان، سمح لي بعد فحص  جواز سفري  بالدخول.. كانت جولتي بالمسجد قصيرة ، رغم أن المكان مبهر يغري بالبقاء طويلا ، بهندسته الذاكرية  المشعرة بالسكينة ، وقطع  الفشاني التي تحيط  بأقواسه الداخلية ، ونقوش الخط العربي المذهبة ، التي تملأ صقفه المقبب “ص 48
ولعل الرحالة قد افتتن أيضا ببعض الأمكنة التي كان قد خربها العدوان الإسرائيلي قبل 11 سنة وتفاجأ للصورة  التي أضحت عليها ، ووقف على جمالية المكان بعدما أعيدت له الروح من جديد، إذ بدت المدينة مرتبة تبعث على الحياة ، ولا شيء  يوحي بأن دمارا قد أصابها في وقت سابق ، فالشوارع نظيفة  وواسعة وعمارات سكنية حديثة.
ولا شك أن مشاهداته بالقدر  الذي امتعت عين الرحالة ، نكست عليه أخرى راحة البال ، وأدمت القلب، من خلال وقوفه على معاناة ومحن لا تتصور داخل مخيم نازحين رمتهم ظروف الحرب في فضاء تنعدم فيه أبسط ضروريات العيش، فهم قابعون داخل خيام وحواجز أسلاك ، ويتطلعون إلى بزوغ فجر الحرية والعودة إلى الموطن الأصلي ، فهم يستفيقون على سؤال يؤرق بالهم متى العودة؟ 
إذ لا حياة تطاق داخل مخيم، يخيم عليه غضب ومأساة تدمي القلوب، تلتصق على مداخل المخيم صور زعماء الفصائل، ياسر عرفات، الشيخ ياسين، أبو علي مصطفى …تراهم وجوه شاحبة غير مستسلمة، رافعة شارة نصر مأمول.
 هو مشهد لم يكن ليفسد راحة الكاتب وإفتتانه بالأمكنة السابقة رغم أنه قد زحزح دهشته ، وأدخله الوضع ولو مؤقتا في خيبة أمل لشعب يتوق لمعانقة الحرية وبزوغ فجر العودة للوطن الأم.
لقد نجح الكاتب والشاعر عبد الله صديق في تقريب القارئ من عادات ومآثر لبنان المختلفة الأشكال والهندسة، وتجليات مواطن الجمال فيها، عبر لغة شاعرية تطرب الأذن.

< عبد الله مرجان

Related posts

Top