السايبورغ مخلوق هجين أصله إنسان

وضعت دونا هاراوي، العالمة الأميركية البارزة في مجال الدراسات العلمية والتقنية، والأستاذة في تاريخ الوعي وقسم دراسات المرأة بجامعة كاليفورنيا، في أُفق ما بعد الحداثة، سيناريوهات ما بعد الإنسان مقدمة شخصية إنسان الألفية الثالثة، الذي أطلقت عليه مصطلح “السايبورغ” في إعلانها الصادر عام 1989 تحت مسمى “إعلان السايبورغ”.
بيان السايبورغ

ويعود هذا المصطلح إلى ستينات القرن الماضي حين نحته مانفريد كلاينز وناثان كلين للإشارة إلى “الإنسان المحسّن، أو المطور الذي يمكنه العيش في بيئة أبعد من حدود الأرض”، ولكن هاراوي هي التي أدخلته إلى عالم الأدب والثقافة، وتقصد به الكائن الحي السيابرنيتيكي، وهو نتاج اتحاد الإنسان بالآلة اتحادا ليس بسيطا، ذلك أنه غير قابل للفصل ضمن السايبورغ الذي يعمل من خلال تفاعل الجزأين معا، فالإنسان ليس نهاية الطريق، إذ يبزغ من خلفه السايبورغ: الكائن الهجين المخلوق من تزاوج الكائن البيولوجي والآلية السايبرنيتيكية.
عن إعلان هاراوي، قدّمت الباحثة والمترجمة الفلسطينية أماني أبورحمة محاضرة نظمتها مؤسسة خالد شومان (دارة الفنون) الثقافية في عمّان، ضمن مشروع “إنترنت الأشياء: عالم آخر ممكن”، وهو برنامج إقامة فنية، ومعرض وأنشطة منقولة عبر البث الحي يتيح مساحة للتساؤل والبحث الجماعي.
عرضت أبورحمة في المحاضرة قراءتها للبيان، مع التركيز على أهميته في الظروف الراهنة التي تعيشها النساء عامة، ونساء المنطقة على نحو خاص، وتحدثت عن الفرص والاحتمالات التي يطرحها السايبورغ للتمرد على قيود الماضي وأساطيره، والانطلاق كسايبورغات تحدد موقعها تجسيدا واندماجا، وتستجوب العالم الذي صنفها ذات يوم على أنها آخر.
وتناولت أبورحمة موضوع “العلم والتكنولوجيا النسوية الاشتراكية في أواخر القرن الماضي”، كجزء من كتاب دونا هاراوي، التي وظفت استراتيجيتين مهمتين في صياغة بيانها هما: التجسيد أو المجازية الواقعية، وتعني أن نضع مجازا في محاولة للخروج من البطريركية الذكورية، والمجازية التصويرية وهي أسلوب فكري يعبّر عن طرق للخروج من التمركز الثالوثي.
وذكرت أبورحمة أن البيان يتكون من ستة أجزاء رئيسية هي “الحلم الساخر”، “هويات ممزقة”، “معلوماتية للهيمنة”، “اقتصاد العمل المنزلي خارج المنزل”، “النساء في الدوائر المتكاملة”، و“السايبورغات وخرافة الهوية السياسية”؛ مشيرة بالتفصيل إلى كل جزء من هذه الأجزاء.
وأكدت أن هارواي وظفت السايبورغات كمجاز لما بعد الحداثة، وأيضا للثقافة التكنولوجية والتحرر من الجوهرية التي تعيدنا إلى فترة الحداثة، وركزت على أن السايبورغ مجاز وخرافة سياسية، وعرفته على أنه كائن سايبيري وهجين من الآلة والكائن الحي، ومخلوق من الواقع الاجتماعي ومن الخيال، وقالت في بيانها إن الخيال إنتاج مستمر للواقع.
وأشارت أبورحمة إلى أن السايبورغ تسبب بتحطيم الكثير من الحدود التي نعيش في ضجيج انهيارها، ومن ثم كل التنظيرات التي اعتمدت على الثنائيات، وعلى إقامة الحدود الحاسمة كخط السكين بين الكيانات تستلزم وضع نموذج جديد. وبحسب هاراوي فإن الحديث عن انهيار الحدود من شأنه إقناع النساء بالانخراط بالتكنولوجيا.وأوضحت الباحثة أن سياسة السايبورغ، وفق ما وضعتها هاراوي، أكدت أن الهويات والسياسات ينبغي أن تبنى على أساس التقارب، وتعبر حدود العرق والطبقة والجندر والممارسة الجنسية، لتتمكن من تكوين أرض خصبة لبناء علاقات التعاطف التي تعزز الاعتراف بالالتزامات المشتركة وتعمل بمنزلة قاعدة للتضامن والتحالف.
تأنيث الفقر

بيّنت أبورحمة أن مصطلح “الاقتصاد المنزلي خارج المنزل” عند هاراوي يوضح لنا أن الثورة الصناعية الجديدة أنتجت جنسيات وإثنيات جديدة، وطبقة عاملة عالمية جديدة، وهي النسويات اللواتي يعملن بالإلكترونيات بكل مكان في العالم، ويجري استغلالهن، وتُفرض عليهن سلطات غريبة باسم التكنولوجيا، وأيضا أصبحت وظائف الذكور هشة، ما أنتج مصطلح “تأنيث العمل” الذي رافقه أيضا “تأنيث الفقر”. كما أشارت هاراوي إلى أن السايبورغ ولد من العسكرية، لكن رغم ذلك قاوم كثير من العلماء الأدوات العسكرية ورفضوا الانخراط فيها.
إلى جانب ذلك تحدثت هاراوي عن مصطلح “النساء في الدوائر المتكاملة”، وقالت إن الاقتصاد الجديد طمس الخط الفاصل بين المجالات العامة والخاصة. وفي الفصل الأخير، وهو “السايبورغ: خرافة الهوية السياسية”، أسهبت في سرد كل قصص الخيال العلمي والأفلام التي شاهدتها. وما لخصته في الفصل الأخير هو أن إنتاج نظرية شمولية كلانية خطأ كبير يفتقد إلى الواقع.
ورأت أبورحمة أن عمل هاراوي الرائد فتح المجال لتحليلات للنسويات كانت مهمة جدا، ووضع أسس خيال نسوي جديد مختلف عن الواقع المادي للنظام التكنولوجي، وأثرت كتاباتها وأبحاثها على الكثير من الباحثات، وأصبحت ركنا أساسيا في دراسات موجودة في العصر الحالي، ويمكن الحديث عن اتجاهين في النسوية وظفا تنظيرات هاراوي عموما، وبيان السايبورغ خصوصا، على نحو فاعل في أدبياتها وهما “النسوية النيومادية” و”النسوية السبرانية”.
ويذكر أن أماني أبورحمة باحثة وكاتبة ومترجمة فلسطينية مقيمة في غزة، حاصلة على  ماجستير تربية وعلم نفس، وماجستير تكنولوجيا حيوية. صدر لها “أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة”، “الإنسان في ما بعد الحداثة”، “أبعد من فوكو: السياسات الحياتية في عصر الجينوم”، “الإنسان بلا محتوى”، “نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد”، “الفضاءات القادمة: الطريق إلى بعد ما بعد الحداثة”، “علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد”، “جماليات ما وراء القص: دراسات في رواية ما بعد الحداثة”، و”نهاية ما بعد الحداثة: الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن”.
وشاركت بمجموعة دراسات فى عدد من الموسوعات العلمية، منها “موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج”، “موسوعة الفلسفة والنسوية”، “موسوعة خطابات الما بعد في استنفاذ أو تعديل المشروعات الفلسفية”، وموسوعة “الفعل السياسي بفعله ثورة: دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة أرندنت”.

Related posts

Top