من الكهنوت السياسي إلى دولة القانون

كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.. صدق رسول الله العظيم، وصدقت رؤيته، بل سابقت العصور، لتحطّ اليوم في ساحات التحرير العربية، حيث يتداعى الجسد العربي بوجع استبداد مزمن نال من قواه وقدراته عشرات السنين، وتسهر له العواصم العربية بالتعب والحمى.
قلب الألم كان ولم يزل يئن بنزيف جسد سوريا الكليم، ذاك البلد الذي تناوبت عليه الحضارات الإنسانية وولدت على أرضه أبجديات اللغة والموسيقى، ما انفكّت تتنازعه المخالب والأنياب الشرهة على امتداد عقود عجاف لم يشهد فيها براء من الاستعمار الخارجي إلا لفترات وجيزة إثر الاستقلال الأول، حتى وقع في شرك احتلالات داخلية هي الأبشع في العصر الحديث.
منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في دمشق، بقوة السلاح وسلطة الطائفة، والبلد يمور تحت وطأة أوجاعه المتنقلة. فسلطة (الحزب/القائد/الواحد) المطلقة جلبت الطغاة الطائفيين إلى كرسي الحكم على حساب إقصاء البرجوازية الصغيرة المدنية التي كانت قد أسست في حينها نواة لحركات التحرر في سوريا والمشرق العربي؛ من أنضر صورها كانت “الكتلة الوطنية السورية” التي التأم منها عقد رجالات سوريا وأخيارها من أصحاب الفكر التقدمي والمال النظيف والأيادي البيض على البلد وأولاده. وليس عهد الجمهورية السورية الأولى ابتداء من العام 1932 حتى وصول حزب البعث إلى السلطة في العام 1963 ببعيد؛ وما إرث قادتها الوطنيين من أمثال شكري القوتلي وسعدالله الجابري وهاشم الأتاسي وفارس الخوري، بزائل.
تجددت آلام المخاض السوري في ربيع العام 2011، وكانت موجة الحريات العارمة تجتاح الشمال الأفريقي لتصل إلى قلب الشرق دمشق. بدأ الخروج الكبير من درعا ثم دق أبواب دمشق وتنقّل سريعا إلى المدن الكبرى السورية كافة مع استثناءات هنا وهناك اختارت الولاء للسلطة أو الحياد أو التريّث.
ثمن حرية السوريين كان مريرا: تدمير المدن على رؤوس أصحابها، ونزوح وهجرة الملايين بما يقارب ثلث الشعب السوري، وعشرات الآلاف من المعتقلين والمغيّبين قسرا، والأوجع من هذا كله فقدان مليون شهيد ونيف وضياع الأرض نهبا بين أطماع الدول الصديقة والعدوة في آن.
اليوم ونحن نطوي العام التاسع من عمر الثورة السورية تتداعى المدن الشقيقة بالسهر والحمى لآلام دمشق. فها هي بيروت تنشقّ ساحاتها عن غضب كامن في صدور من اكتوى بالطائفية والفساد والفوضى فكان “حكم الأزعر” هو المستهدف من ثورة الساحات لإنقاذ البلد من انهيار مجتمعي واقتصادي ومؤسساتي قادم. أما أبناء بلاد النهرين فلهم الحصة الأكبر من تلك التداعيات التي تنتفض وينتفض عبرها الجسد العربي؛ مئات الشهداء وآلاف الجرحى، بينما المسدسات المجهزة بكاتم الصوت تتحرك لتغتال كل من ارتفع صوته مطالبا بخروج إيران من الحياة السياسية العراقية وكف يد أزلامها وميليشياتها عن مفاصل الحكم في بغداد. وقد طالت التهديدات موقع رئيس الجمهورية حين رفض الرئيس، برهم صالح، ترشيح اسم دفعه الموالون لحكام ملالي طهران إلى مكتبه لشغل منصب رئيس الوزراء، وغادر صالح، بعد التلويح بالاستقالة، قصر السلام في بغداد إلى مسقط رأسه السليمانية في إقليم كردستان العراق.
هذا الحراك السلمي الشعبي الذي بادرته الجماعات الطائفية المسلحة بالرصاص الحي هو الأول من نوعه منذ سقوط نظام بعث صدام الحسين في العام 2003 حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
موجات الغضب الشعبي تلك، مجتمعة ومتواقتة، تفصح عن جوهر الخلل الذي اعترى الحياة السياسية في سوريا والعراق ولبنان واليمن ويطال اليوم الشمال الأفريقي ابتداء بليبيا، إنه الإسلام السياسي متمثلا بجناحيه التكفيري صاحب الرايات السود والطائفي صاحب العمامات التي تحمل ظلام الأسود نفسه من طهران إلى العالم!
يلتقي التطرف الشيعي ونظيره التكفيري عند مفرق واحد هو محاولتهما -كل على طريقته- القضاء على إمكانية نشوء أنظمة حكم ديمقراطية بالمعنى العميق للمصطلح تقوم على حكم القانون المدني وليس الكهنوت السياسي الذي يضع الطائفة فوق المواطنة، وهنا تكمن ضربة المقتل.
من الخطأ الفادح تصوير مشهد الانتفاضات الشعبية في العواصم العربية على أنها مواجهة اللاديني ضد الديني، أو بالإسقاط السياسي للعبارة مواجهة العلماني ضد الإسلامي؛ إنها في جوهرها ثورة المواطنة والعدالة البشرية على سطوة الكهنوت السياسي القادم من وراء الحدود. وخير مثال هو ما يجري في العراق الآن من تأييد المرجعية الشيعية ووقوفها إلى جانب المتظاهرين الذين خرجوا في بغداد وفي المحافظات الوسطى والجنوبية ومن عمق الحاضنة الشيعية في النجف وكربلاء والبصرة هاتفين “العراق حرة حرة وإيران برا برا”.
منذ العام 2003 فشل رؤساء الوزراء الذين توالوا على الحكم في العراق في بناء دولة القانون المنشودة ما بعد حكم البعث؛ بل ما حدث للأسف أن طائفة سياسية جديدة تكالبت على السلطة. وإثر فشل الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، في مساعدة العراقيين على تأسيس دولتهم الجديدة المعاصرة، جاءت انتفاضة 2019 مدعومة بالمرجعية الشيعية العراقية والوطنية لتؤكد على وحدة شعب العراق بطوائفه كافة ضد الكهنوت الفارسي الجديد.
فصل المقال يرفعه هتاف الساحات العالي حيث لا تراجع في مطالبها الجماهيرية هذه المرة بعد أن بلغ السيل الزبى. المواطن المطحون تحت أوزار الفقر والإكراه والعنف لن يقبل بالمساومات بعد اليوم. وإذا كان آخر الطب هو الكي فلا بد من غسل الجراح بماء النار خلاصا من ذاك الداء المستعصي الذي يريد استجرار العرب بمذاهبهم كافة إلى المحرقة العظمى حتى ينفرد بعرش الجماجم للإمبراطورية الفارسية المفقودة.

> مرح البقاعي كاتبة سورية أمريكية

Related posts

Top