مفارقات في قصص “أتراك تشرقين غدا..؟” للقاصة المغربية فاطمة الزهراء المرابط

“تشكل القصة جزءا من الحياة قبل أن تهاجر من الحياة وتنفي  نفسها في الكتابة”(1) بول ريكور
تشدنا هذه اللحظات العابرة المنفصلة من الحياة والمتصلة بالكتابة، لنقف عند هذه التفاصيل اليومية والأمور العادية المسرودة قصصيا في سياق تخييلي رمزي جمالي، يغلب عليها ضمير المتكلم، وهو أصعب الضمائر  في الكتابة الإبداعية عكس ما يزعمون،  ضمير يحضر في “المعطف الأسود”، “كأس واحدة”، “هلوسات منتصف النهار”، “ماسح الأحذية”، “الطاولة الأخرى”، “أصوات”، “موناليزا”، “من نافذة القطار”، ليبرز ذاك الإحساس الذي تنقله القاصة فاطمة الزهراء المرابط في منجزها القصصي “أتراك تشرقين غدا..؟”،(2) وهي تتحدث عن أدق المشاعر وتتوغل في أعماق الشخصية دون أن تشعر القارئ بالتكلف.
تقول القاصة: «المطر يتسرب إلى غرفتي، الحروف الهاربة تلتف حولي، تتراقص، تلتصق ببعضها مشكلة مقاطع نورانية، أتراه الوحي؟! أتساءل في أعماقي».(ص:9) أهو  تساؤل  بضمير الكاتبة أم بضمير الصوت الذي تختفي خلفه الساردة؟ بل هي مشاركة “جوّانية”، ورصد داخلي جعل الساردة كصوت وكشخصية ترصد عوالم القصة من الداخل برؤية سردية داخلية متعمقة خاصة. كما ترصد الأفعال والأحداث من زاوية قريبة جدا وبرؤية مصاحبة «تسمى في الرؤى السردية» برؤية مع وبمسافة قريبة تفصل الحدود لتقرب وجهة نظرها ورؤيتها وإحساسها ومشاعرها. 
وفي قصة أخرى تقول السارد: «من أين ينبعث هذا الصوت إذن؟ إن الصوت يتحول إلى محاورة ثنائية هامسة، أتراني نسيت التلفاز مشغلا؟ (…) صمت قصير يطبق على الجو، قبل أن ينبعث صوت خافت من بعيد..».(ص:93-94) صوت وصمت يساهمان في ظهور الساردة وفي اختفائها، في الفعل وفي القول، وضمن هذه الثنائية الرمزية (الظهور والاختفاء) يتولد الحكي وتتنوع الرؤية والخطاب…
ويتخلل الزمن القصصي استرجاعات واستباقات، بهذا الاسترجاع أو بهذا السرد الصامت، تستحضر القاصة الزمن البعيد عن طريق شخصياتها، وهي تتذكر ما مضى: «أتذكر الدائرة الصغيرة التي رسمها الأستاذ على ورقتي، مع عبارة لازالت تتراقص أمام عيني «تحول إلى المجلس التأديبي» ألم أخبركم سابقا أنه يخشى لعنة السؤال».(ص:30) وجاء في قصة “معايدة” «الذكرى المريرة تحضرني بكل تفاصيلها، صور متلاشية تتراقص أمامي وكأنها تحاول الخروج من ذاكرتي، لتجالسني هنا وتشاركني فنجاني البارد. ينبعث ذاك الصوت من داخلي (…) لا أتذكر أني كنت يوما مشاغبا بل كنت هادئا…».(ص:54)
   فالاسترجاع في المجموعة القصصية هو استرجاع للحظات ومواقف غيرت مسار الزمن في السرد باسترجاع أحداث ماضية (flash back)، ومع هذا التذكر والاسترجاع يبرز  الاستباق الزمني المصحوب بالسؤال في عنوان المجموعة القصصية “أتراك تشرقين غداً..؟” استباق استشرافي مصحوب بعلامات حذف وباستفهام إنكاري، شكلا تمهيدا لتوقعات حملت القارئ على التساؤل عن الأحداث المظلمة السابقة، فجعله يتكهن  بمستقبل  مختلف، ويتساءل عما سيؤول إليه مصير الشخصية ومستقبلها.. وكذا عن  مدى حضور هذا الإشراق في  الأقصوصة؟!   توقع وتكهن  مرتبط بتحرر كلي من القيود والسواد جعل الشخصية الرئيسية -وهي التي تبحث عن الولادة الجديدة-  في قصة “الرقصة الأخيرة” تضيع في ظلمة أشد وهي تنجرف وراء الوهم والسراب والكذب لكن قرارها الأخير «لن أكون إلا أنا» جعل هذا  الاستباق  الحدثي  يتنبأ  بإشراق  جديد «الأمواج وحدها تبعث فيك الروح، تحسسك بالولادة الجديدة ،اللون الأحمر المتسرب من فستانك الصيفي يلون الماء، يلون قلبك وذاكرتك الثائرة بألوان الحب والتمرد.
– لن أكون إلا أنا..
صرخت وأنت تنفضين بقايا الرمال عن جسدك المبلل».(ص:25)  
ونجد في المجموعة نفسها مشهدا حافلا بالدلالة، وجدت شبيها له في قصة “مخاض”: «لن أنتظر بعد الآن أحرك قدمي، يدي، لعلني أقتص من حبل العبودية الذي يقيدني  أصرخ ملء صوتي وأنا أتنشق الهواء»(ص:83)  إنه الإشراق بعد الصراخ، هي الولادة والتطهر والتحرر. تمازج بين لحظات الخروج من الوهم  ولحظات الولادة.. تجمعهما «رمزية الماء» الذي يدل على التطهر والحياة، إنه إحالة  على كل  البدايات… «الأمواج وحدها تبعث فيك الروح»،(ص:25) «متى سأخرج يا ترى من هذا الكيس المائي؟!».(ص:80) فالارتماء في ماء البحر، شبيه بالعودة إلى رحم الأم.. حيث «صدمة الولادة»، حيث التطهر والحماية والحياة المشرقة  الجديدة. 
  تحوز “رمزية الماء” حضورا وفاعلية مهيمنة على روح  السرد في المجموعة القصصية أذ لا تخلو أي قصة من أبعاده الدلالية  وتراكماته اللغوية (قطرات المطر-كأس ماء-الأمواج- الخمر-ماء السلسبيل-البحر- النبيذ-العرق المتصبب-الكيس المائي-كؤوس الشاي-فنجان قهوته-). وإذا كان  الماء رمز للولادة فهو حسب التصور الباشلاري «أحد أقنعة الموت الرهيبة، -يتدفق أبديا- يموت في كل دقيقة، إنه ينتهي دوما بموته العمودي».(3) ونجد «يتحسر قائلا، قبل أن يترسل في حكيه، «قد تفاجئنا ريح قوية أو زخات مطرية تعصف بقواربنا الخشبية الصغيرة، وكثيرا ما عدنا من دون أصحابنا، وأحبابنا الذين ابتلعهم البحر… البحر غدار».(ص:60-61) من مثل هذه الجزئيات المهمة، وبمثل هذه  القدرة  على استحضارها وترتيبها ضمن أحداث وسياقات يقتضيها السرد القصصي، تقودنا القاصة إلى التقاط  الجانب الإنساني ومواقفه بأنساق لغوية واضحة، وبتفاصيل نابضة حية، وبمفردات بسيطة  عميقة وسرد هادئ رصين يجعله لصيقا بوعي المتلقي، وهو يتتبع الأحداث وأفكار ومشاعر  الشخصيات… تكشف عن  دقائق الأمور  وتشكل بؤرة  المعنى.  
وفي “هلوسات منتصف النهار”: «أي لعنة حلت علي هذا الصباح، وأنا أغلق الهاتف بعد اتصال قصير معك، نبرة صوتك زلزلتني، بعثرت أفكاري ومعتقداتي الضيقة. أتراك أيقظت في أعماقي الحنين إلى طفولتي البعيدة، وأنت تحدثني عن والدك الذي يمضي اليوم في معاقرة الخمر ومداعبة النساء، قبل أن يتسلل إلى غرفته في ساعة متأخرة، يشكو ألم الظهر من جراء الصلاة وقيام الليل، وكيف تصدقه والدتك وتكذب رائحة الخيانة التي تزكم أنفها الليلة؟.(ص:29) استطاعت القاصة فاطمة الزهراء المرابط أن تؤسس المتخيل القصصي في قصص “أتراك غدا تشرقين..؟” بخلفية جمالية فنية  تنطلق  من الإنسان وهمومه وأزماته، لتقدم  رؤية واعية للواقع عن طريق وصف دقيق للأحداث وللشخصيات، فأضحت أغلبية نصوصها القصصية كمرآة تصور الواقع الاجتماعي في تناقضه وتعقده «ولم تظل مجرد لغة، بل فيما هي كذلك  تحمل رؤية للعالم، وهي على علاقة وثيقة بموقع صاحب النص وفكره الاجتماعي، وبوضعيته الثقافية».(4)
وهو انعكاس يظهر جليا في قصة “ماسح الأحذية”،  وفي هذا العنوان الذي يوحي بدلالات ما يصطرع في ذهن القاصة من أفكار وهواجس جعل اختيارها  للعنوان  المباشر  لا «الإيحائي»، حتى  تكشف للقارئ عن أزمة إنسانية… أزمة شخصية مفتوحة على الضياع والتشرد «نظرات مسروقة من صمت رهيب، وتيهان لا حدود له، ينحني كل يوم سعيا وراء لحظات من الزمن، لعلها تنعم عليه ببعض الدريهمات، عيناه غارقتان في السواد، تطل منهما كآبة العالم بأكمله، وكأنه قادم من منفى سحيق».(12)  
بهذا المدخل الوصفي المعبر يلج القارئ عالم القصة وهو مهيئ للكشف عن هذه الشخصية المأزومة، المهزومة «نفسيا واجتماعيا» «خطواته البطيئة تتقدم نحوي… تنحني إلى قدمي لتسمح حذائي..»،(ص:52) «وقف متجمدا أمامي، نبرة الحزن تسيطر على صوته المبحوح»،(ص:51) «في ملامح فتى بئيس يقف أمامي الآن، وقد فعل به الزمن فعلته المعتادة (…)شكرا لك يا أستاذ لم أحس بهذا الحنان منذ زمن طويل، مللت من الوحدة والتشرد بلا عائلة بلا هدف  أو مستقبل (…)لم تكن  له أحلام سوى الموت بهدوء، كيف يعقل أن يفكر فتى مثله بهذا الحزن الدفين؟ الشقاء اليومي يفرض نفسه بلا رحمة، والواقع يختم على كل شيء بجبروته»(ص: 53 و56) 
وبهذا المعجم الموظف الدال على البؤس والحرمان والتشرد، يضعنا النص أمام مفارقات واضحة، بين أصوات مختلفة متباينة، ولكل صوت نغمته المصبوغة بصبغة شخصيته، فإذا كان صوت (ماسح الأحذية) مأزوما لا يجيد  إلا الحزن والانكسار، فإن (صوت الأستاذ) حي يعمل على  غرس الأمل والتفاؤل ولا يتوقف عن الحلم، لنجد صوتا يختلف عنهما  بقوته وكشفه وفهمه لكل الوقائع والأسرار هو صوت الكاتبة.   
  بهذه الأصوات وبغيرها، تحددت الحركات الأساسية التي دعمت حركات الفعل القصصي المتنوع والمتعدد، وساهمت في إثراء حركية الأحداث والبناء القصصي في المجموعة. 

*****

هوامش:

(1) بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط.1، 2005، ص331.
(2) فاطمة الزهراء المرابط، أتراك تشرقين غدا..؟ الراصد الوطني للنشر والقراءة، ط.1، 2019.
(3) Gaston Bachelard, l’eau et les rêves, essai sur l’imagination de la matière, José corti, 1942, 15ème réimpression, 1979.
(4) جولد مان، لوسيان وآخرون، البنيوية التأويلية والنقد الأدبي، (ترجمة: محمد سبيلا)، ق1، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت–لبنان، 1984، ص:43-42. 

> بقلم: رجاء بنحيدا

Related posts

Top