الأدب المغربي يؤدي قسما مهما من تكلفة فشل السياسة التعليمية

بلغة التواضع وبأخلاق عالية والابتسامة تعلو محياه، استقبلنا الشاعر والباحث رضوان خديد، حين طلبنا وده لإجراء حوار حول تجربته الإبداعية والعلمية، مرحبا بالفكرة، مؤكدا  أن من زرع فيه حب الشعر والإبداع بصفة عامة، هو  والده رحمه الله، الذي كان يلقي على مسمعه أزجالا ومُردّدات من كلام المغاربة الأولين، فأول ما سمع النظم كان على لسان والده، أزجالا شعبية، وأبياتا من فصيح عنترة ابن شداد، ومما نسبه الرواة إلى سيف بن ذي يزن، ملفتا إلى أن فعل الكتابة الشعرية بدأت على استحياء، في مراتع الشباب الأول، في حجرات الدرس بإعدادية عبد الرحمان بلقرشي بالدار البيضاء.
 رضوان خديد كاتب مغربي متخصص في الأنثروبولوجيا وعلم المتاحف، شاعر وفنان تشكيلي، تخرج من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط، شغل مهام محافظ متحف بمدينة مراكش، ثم محافظ للمتحف الوطني للخزف بآسفي، ثم عمل مدرسا  لعلوم الأنثروبولوجبا والمتاحف بجامعتي القاضي  عياض بمراكش  وشعيب الدكالي بالجديدة، له إصدارات أدبية وعلمية، إذ صدر له في مجال الشعر: “فقه التغريبة ونوازل السبيل” سنة 2010، و”زهرة واحدة تكفي” سنة 2014 وكتابين في  علم المتاحف: الأول سنة 2014 تحت عنوان: “المتحف والمتحفية بدايات وامتدادات ثقافية” والثاني سنة 2019 بعنوان: “المتاحف وأفكار النهضة، الاكتشاف والانتكاس، رحالون مشارقة ومغاربة في المتاحف الأوروبية من القرن 17 إلى بداية القرن 20″، ويتأهب الباحث خديد لإصدار عمل جديد “الحلل البهيجة في فتح البريجة: الحكاية والتاريخ”، والذي صادف إعداده مرور 250 سنة على خروج البرتغاليين من مدينة مازاغان.
وبين هذا وذاك هناك أشياء أخرى، يكشف عنها نص الحوار التالي:
           <  متى وكيف اكتشفت بداخلك شاعرا ؟ *
> لم أبدأ بعد، الشاعر الذي داخلي (لعله خارجي لست أدري) ما زال أكثره في قمقمه، داخل مَحبَسِه، يُقدِّم رِجلا ويؤخر أخرى، ليس الأمر حالة من الوهن أو التردد. فالأنفاس ربما متعلقة بالشِعر منذ بدئها، والنبض اهتز للنَظم في وجوده القديم، لكنها أغلال وأحوال وسير خلال عوالم بعضها أضيق من بعض، مع إدراك ثابت أن مادة الشِعر تخرج أصفى وأصغى على قَدْرِ شدة الطحن وضيق المصفاة، ثم إنها برازغ بعضها من كيمياء الذات وبعضها الآخر من تركيبة “الأنا” وقسم ثالث من تفاعل العناصر مجموعها، وهل نغفل عن المشيئة وسلطانها على الإرادة؟ وكيف نغض الطرف عن أماني أردناها شعرا فاستوت سردا أو تشكيلا أو مجرد زفرات باردة وساخنة؟ 
كان والدي رحمه الله، وأنا يومها في غبش الطفولة، يلقي على مسمعي أزجالا ومُردّدات من كلام المغاربة الأولين. كان يمازحني بأزجال يستحث ذاكرتي باستظهارها، لهذا أقول، إني أول ما سمعت النظم كان على لسان السيد الوالد، رحمه الله، أزجالا شعبية، وأبياتا من فصيح عنترة ابن شداد ومما نسبه الرواة إلى سيف بن ذي يزن، وكانت تأتي عليه ساعات من الصحة والصفاء فيرتجل السطر والسطرين والبيت والبيتين إما حامدا نعمة، أو ممازحا أهله، أو ساخرا من أمر من أمور الدنيا أو متأملا في حال من أحوال الناس،لهذا أظن أن أول عهدي بالشعر كان بصوته، وأني أبصرت القصيدة بعينيه وفي مكتبته، التي ضمت ما يسد رمق المبتدئ.
أما الكتابة فأمر آخر، الكتابة الشعرية بدأت على استحياء، على ما أذكر في مراتع الشباب الأول، في حجرات الدرس بإعدادية عبد الرحمان بلقرشي بالدار البيضاء، كانت المؤسسة يومها تقريبا على هامش مدينة الدار البيضاء، تمتد أمامها مقبرة سباتة، الصامتة ظاهرا، والصاخبة بأنواع من الحياة لمن يتأمل.
(لطالما لعبنا الكرة في ساحة فارغة منها). كان من أساتذتي بالإعدادي الأستاذ إبراهيم تكات الذي عمل لاحقا سنوات طويلة بكلية الآداب ببني ملال، وكتب أطروحة عن علم الجمال العربي- الإسلامي، كما أن من بين أساتذة إعدادية عبد الرحمان بلقرشي، الذين غرسوا وتعهدوا الكلمة والفن، أذكر أستاذي أبو سرحان الزيتوني رجل المسرح المعروف، لازلت أذكر لذة الكتابة الأولى، ومتعة قراءة المحاولات الشعرية الأولى بين جماعة من التلاميذ والتلميذات كان من بينهم أخونا الشاعر مبارك الراجي. 
ثم إن لحظات بذاتها أطلقت عين الكتابة: الحسرات الأولى، أوجاع القلب الناشئ، المخاوف التي تكاثرت على الإبن البكر في أسرة فقيرة… بدأت الكتابة أيضا بفعل لحظات جميلة كان من بينها مثلا حضور الشاعر المرحوم عبد الله راجع إلى دار الشباب سيدي عثمان ذات رمضان في ثمانينيات القرن العشرين، وإلقائه قصائد كأنه اقتطعها اقتطاعا من روحه.
طبعا كانت الكتابة الأولى هشة.. وأظنها مازالت كذلك، هشاشة تحتاجها الكتابة نفسها لتكون.
والأهم أني أتيت بزاد قليل فكتبت بما عندي…وحسبي أني حاولت أن أنطق.
 
< ما هي أبرز أعمالك التي صدرت وما هي مشاريعك المستقبلية؟ 
> صدرت لي في الشعر مجموعتان: “فقه التغريبة ونوازل السبيل” سنة 2010، و”زهرة واحدة تكفي” سنة 2014. ضمت المجموعة الأولى نصوصا انكتبت على فترات متباعدة، وتحت سماوات مختلفة لكنها انتمت كلها إلى السؤال ذاته: سؤال الغربة، وأوجاع السير أو إذا شئنا “السلوك” بالمعنى الصوفي المُتعدّي إلى أبعاد آنية.
   أما الديوان الثاني، “زهرة واحدة تكفي”، فقد خرج إلى الوجود في سياق ما سُمي بالربيع العربي. نصوصه تَخلّقت بين 2011 و2018، فكأنه ترانيم أو أصداء من الداخل لمرحلة من تاريخنا.. أصوات/نصوص آتية من مقامات وجودية و”أحوالية” متباينة، من بين مداراتها الانفعال مع الكائن ومِحَنِه.
   وبين هذا وذاك، صدرت لي نصوص شعرية متفرقة في منابر هنا وهناك، بعضها إلكتروني وبعضها الآخر ورقي، من بينها مجلة “إبداع” المصرية.
   وبعيدا قليلا عن الشعر قريبا أكثر من الفن وثقافة الجمال بالمعنى الواسع، صدر لي كتابان في تخصص علم المتاحف: الأول سنة 2014 تحت عنوان: “المتحف والمتحفية بدايات وامتدادات ثقافية” والثاني سنة 2019 بعنوان: “المتاحف وأفكار النهضة، الاكتشاف والانتكاس، رحالون مشارقة ومغاربة في المتاحف الأوروبية من القرن 17 إلى بداية القرن 20 “. 
وقريبا سيصدر كتاب “الحلل البهيجة في فتح البريجة: الحكاية والتاريخ”، والذي صادف إعداده مرور 250 سنة على خروج البرتغاليين من مدينة مازغان(الجديدة حاليا).
صدرت لي مقالات ومشاركات في ندوات حول علم المتاحف والأنثروبولوجيا والتاريخ منذ تسعينيات القرن العشرين. أحسبها محاولات متواضعة لقول كلمة صغيرة في عالم شاسع من الجعجعة.
   أما المشاريع المستقبلية، أحب أن أدعها تنضج على نار هادئة حتى تستوي، ساعتها لا يحول بينها وبين القارئ حائل.
   
< أي الطرق قادتك إلى عالم الشعر؟
> كل السبل قد تؤدي إلى الشِعر. لن تعثر على خارطة طريق إلى هذه الكيمياء العجيبة، لكن ستجد حكايات خاصة، بعضها يتقاطع، يتجاور، يتكامل مدة من الزمن. بعضها الآخر يبدو بعيدا أو متباعدا. وإن كنتُ أحب أن أعتقد أن تحت التجارب الشعرية الأكثر تمايزا يوجد ماء كثير مُشترَك.
   بالنسبة لي، ولدتُ قلقا، نشأت قارئا نهما، مستمعا لأصواتي الداخلية، أطربُ وأنتشي للجمال في جميع صوره وآياته. 
تقنيا أعتقد أنني استفدتُ من مرحلة كتابتي للمسرح خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، كانت تلك تجربة أظهرت لي قوة اللغة وسلطانها وجماليتها، توجد محطات لاحقة، من هذا النوع، وفي الحصيلة أشكرك لأنك بسؤالك هذا جعلتني أتأمل في تجربتي من زاوية سؤال: متى؟

< ما تقييمك للأدب في المغرب بصفة خاصة والعربي بصفة عامة؟
> أدبنا يشبهنا، يحمل أعطابنا، غير أنه من حسن الحظ، يختزن في الآن ذاته أنفاسا واعدة تنتمي بالقلب والروح إلى العالم الفسيح، نتحسّر في صمت على حالة الشِعر، نكاد نقول إنه القريب المُهمَل، هذا الجُحود تجاه الشعر لا يكاد ينسجم مع تراثنا الثقافي ومع ميراث الجيل المؤسس للحداثة الأدبية والفنية عندنا، أعجب من طبيعة علاقتنا بالكتاب عموما وبالديوان خاصة، بل لم يعد يتحرج الناشرون كما الموزعون من القول: “لا للدواوين، فلا أحد يشتريها”.
  أعجب وآسف لما آلت إليه بعض الملحقات الثقافية التي كانت جسر جيل كامل من الشباب نحو ثقافة راقية مبثوثة على حامل مُتاح، أتحسر على غياب مجلة للشعر المغربي دائمة الصدور، واثقة الخطى، يشرف عليها “أهل الوَجْد”، و”المجاذيب/العقلاء” و”مّالين الحالْ”، ويشارك فيها النقاد والأكاديميون، وتستضيف شعراء العالم إلى جانب شعراء الهامش، وتتوارثها أجيال من شعرائنا، ساحة مشتركة لكل صنوف القول العمودي والتفعيلي واللاوزني… أحلمُ بجزيرة جمالية ولغوية، أي مجلة حقيقية للشعر كل الشعر.
  طبعا الشعر ليس هو كل الأدب، لكنني أسمّي الشعر عادة “أدب الأدب”، غير أطرافا كثيرة تركته بين كفي الجهلة والمتاجرين، والأدب في مجموعه يحتاج باستمرار إلى بيئة دافئة تحتضن من دون أن تقيد، ترعى بلا وصاية، تفتح الأبواب من غير أن تلزم أحدا بالدخول أو الخروج، أو تغلقها على الداخلين.. ثمة في المحصلة عطب مزمن تجاه كل ما هو جميل، وخلل مستمر نحو كل ما بإمكانه أن يكون جميلا، هناك باستمرار خوف من اللغة، وممن يمتلك بعضا منها.
  وسواء أتعلق الأمر بالأدب في المغرب بصفة خاصة أم العربي بصفة عامة، أعتقد أن مؤشرين هامين يستحقان التأمل: كم يمثل الإنتاج الأدبي عندنا تأليفا وتوزيعا بالمقارنة مع السوق العالمي؟ ماهي المساحة المخصصة للأدب في تعليمنا وإعلامنا؟
أظن أن الأدب في المغرب يدفع، أكثر من غيره، ثمن تحولات اجتماعية واقتصادية ضاغطة، الأدب يؤدي قسما مهما من تكلفة فشل السياسة التعليمية، تراجعت قراءة الشعر لأنه لا يصبح مطلوبا إلا في المجتمعات التي يكون فيها التعليم قادرا على الجمع بين المعرفة وتربية الذوق، حيث يكون التأمل ممكنا والتخيل عتبة والحلم بداية للتكفير.
 
< هل قصائدك صرخات لمكبوتات داخلية أم نقل لوقائع حياتية؟ 
> هذا السؤال الجميل لا تستقيم الإجابة عنه باختيار إحدى الفرضيتين. أحيانا نكتب لمجرد التمتع بانكسار قش يابس أو ميلان عود ريّان، نكتب كما نتنفس.
لا أعتقد بوجود كيمياء واحدة ووحيدة تنفع في صناعة الكتابة الناجحة، تلعبُ الصدفة أحيانا دور المنقذ من الضلال، وفي مرات تنفتح مغارة هائلة من المعاني في حالة من الهذيان الإيجابي.
أليس الهامشُ الكبير الفاصلُ بين التوقعات وبين نتيجة عملية الكتابة مجرد مقامرة جميلة نضع خلالها حروفنا على مائدة اللعب الآسِر؟ يبقى اليقين الأكيد الذي لا يأتيه الشك من بين يديه ولا مِن خلفه: أنا أكتب إذن أنا موجود…إلى حين.
  المُشترَك الكبير الذي يدل على أن في الداخل مادة الشعر،
هو اللغة (اللغات)، إنها المُشترَك والمتعدد في الآن ذاته.
   اللُّغة التي فينا غير تلك التي يَخُطّها المِداد، الأولى مُتمنعة ومنيعة، زئبقية ومجنونة، متوجسة ونافرة من حاملها ومن كل رغبة في التركيب والتنزيل في صورة الحَرف أو الصوت أو الشكل؛ أما اللغة الثانية، فمُباحة، سَهلة، طَوْعَ اللسان والأذن والعين وعامرة بالمُمكنات وبالتدرُّجات؛ بين العالمَيْن اللّغَوِيين، على هذه الأعراف المتحركة يقف الكاتب والشاعر والعاشق.
  أما القصيدة فأرضٌ وسماء، بساطٌ وسقف، ماء وهواء.. ينحت الشاعر من اللغة لغةً في حالة البداية، مادة بين الوضوح والإبهام، لغةٌ ظاهرها حروفٌ ككل الحروف، وباطنها نسيجٌ فريدٌ من المعاني. إن الذي يقع داخل القصيدة وفي جوف النص يُشبه ذوبان المتلاشيات في حمأة نار فرن يصهر خام الحديد والمتلاشيات على حد سواء.
يرمي هذا الشاعر أو ذلك، كلٌّ حسب استطاعته و”نيّته” (النوايا هنا لها وجوه ومعاني ثقافية)، ما تلاشى من اللغة القديمة في المرجل، يمزجُ الخامَ بالقديم من المسكوكات أو المنحوتات الصدئة.. يصبُّ وقودا من حياته اليومية بعد أن تخمرت نكباتها وصارت كحولا شديد الاشتعال… ينفخ على السعير زفرة أو زفرتين، آهة أو آهتين أنة أو أنتين، تسيل صُهارة القصيدة أبطأ من اقتطاع المهجة من صاحبها، وأضنى من فراق صاحب الصبابة مرادَه حين يلقاه بعد يأس.
  القصائد الأخرى، الرائعة، لا نكتبها، هي وحدها تقوم بما يجب، في غفلة من العالمين والرقباء.
    أحب أن أقول: 
أنا لا أكتب .. فقط أعترش كرمة اللغة..إلى العناقيد المنسية.

< ما رأيك في أدباء العصر، ومن منهم يجد صدى عند الأديب رضوان خديد؟ 
– أقرأ للجميع، وألزِمُ نفسي بالقراءة وباحترام ما أتلو وما أتصفح. لا يفوتني المقام بالاعتذار منك لأنني لا أعتبر نفسي أديبا، أنا في الطريق، أحاول ما استطعت.
  اسمان مشرقيان قريبان إلى قلبي: أمل دنقل ومحمود درويش.
من الأسماء العالمية التي أقرأ أعمالها بلذة: الشاعر المسرحي وليم شكسبير والشاعر والكاتب المسرحي فيديريكو غارسيا لوركا.
من جهة أخرى، أعتز بالمغاربة الذين يكتبون الشعر، ينطقونه، ينشدونه، من كل الأجيال والحساسيات الفكرية والفضاءات اللغوية والثقافية، إذ أنه بالنسبة لي لا طائفية ولا إقليمية في الشعر والإبداع.
   
< ما الذي يسقط صفة الإبداع حسب وجهة نظركم؟ *
> أن يخون، أن يخون صوته الداخلي، ألا يحمل العمل الإبداعي لمسة صادقة من روح صاحبها، تقتضي صفة المبدع قدرا محترما من الجرأة، وارتياد المسارات غير المضمونة. هذا المسار محفوف بالأجراف والمساقط، ربما أكثرها تأثيرا على المبدع اعتقاده في لحظة ما أنه صار عمدة زمانه ونجم وقته وأيقونة عصره.
العامل الآخر المُخرِّب لإبداعية المبدع يتمثل في الارتهان لواحد من هذه الثلاثية: الدين والسياسة والمال. كثيرون ماتوا جماليا بسبب إحداها.
       
< كمبدع ما رأيكم في الحركة الثقافية ببلادنا؟ – نمتلك >خزانا هائلا، ليس لأننا فريدون على وجه الأرض، لا أومن بالخصوصية بالمعنى الساذج والديماغوجي، لكن ثمة في كل ربوع المغرب موارد ومصادر لحركة ثقافية كبيرة، يبقى السؤال هل استطعنا تحويل الممكن إلى حقائق كائنة؟ هل توفقنا في إبراز التعدد المصدري (الإثني واللغوي والهوياتي…) في الكتاب والمعرض وفوق الخشبة وعلى شاشة السينما وعلى كل الوسائط الحديثة؟ وهل نجحنا في مأسسة الحركة الثقافية في إطار من التفاعل بين حاملي المبادرات من جهة أولى، والمشرفين على الهندسة الثقافية من جهة ثانية؟ وهل توفقنا في دمقرطة الولوج إلى “خدمة ثقافية”؟ 
لا أميل بطبيعتي إلى الخطاب العَدَمي، ولا إلى الإطلاقية الرعناء، أي تلك التي تسحب على التلوينات والإختلافات حجابا واحدا من الأقصى إلى الأقصى، فالممكن ثقافيا في المغرب أكبر بكثير مما وقع إنجازه، أقصد الممكن بالآداب وبالعلوم وبالفنون والمتاحف..
أما الحركة الثقافية في الهُنا والآن فمحدودة ومحكومة بخارطة اقتصادية وتدبيرية، محكومة أيضا بتاريخها البعيد والقريب، حركة لها ما لها وعليها ما عليها.
  
< ماذا عن المواكبة النقدية للأعمال الأدبية المغربية؟
– لا أرى نقدا احترافيا رشيدا، مواكبا، ومنصرفا إلى التدقيق في الإصدارات متتبعا ومتخصصا، توجد علاقات بعضها ظاهر وأكثرها خفي بين أفراد يتبادلون الحديث (أحيانا الكتابة) عن “أعمال” بعضهم بعض. نوع من أنواع العائلات الثقافية، الأمر أشبه بسوق للنقد هامشي تحكمه القرابة بكل أنواعها، أحترم أصدقائي الذين يكتبون في النقد، أعتز بمساهماتهم، لكنني أظن أن دور النقد أكبر مما يفعل أغلبهم.
         
< ما رأيكم في دور المثقف سياسيا داخل بلده؟
> المثقف، شأنه شأن كل مواطن، كائن سياسي سواء وعى بهذه الحقيقة أم غابت عنه، يبقى الأمر المثير للجدل هو طبيعة العلاقة بالشأن السياسي: هل التفكير والتنظير والكتابة أم الممارسة المندرجة تحت لافتة محددة وإيديولوجيا صارمة، أو ممارسة الترحال بين وضع المثقف ووظيفة السياسي بداعي البرغماتية مثلا؟ 
عرف المغرب، كما العالم، أسماء مثقفة مارست السياسة، بَصَمَت الحقلين بأسلوبها. هل من الضروري أن يبتعد المثقف عن القيام بدور سياسي مباشر بداعي الاحتفاظ على “البكارة الفكرية”؟ ربما، لكنها خسارة حقيقية أن يبقى في حقل السياسة فقط محترفو السياسة والتيقنوقراط. بالمناسبة أليس بعض هذه الفئة الأخيرة مثقفون حقيقيون؟ ثم ما معنى أن يكون الواحد مثقفا حقيقيا؟ هل معناها أن يكون كائنا منفصلا عن الشأن اليومي لأبناء بلده ولقضايا وطنه؟

< كلمة من شاعرنا وباحثنا خديد للأقلام التي تبحث عن فتيل شمعة للخروج من نفق التعتيم عن حروفها؟
 > كلمة من ثلاثة حروف:
الحرف الأول: منذ أن تخلصت القبيلة من أوهامها وذابت في مجتمع الاستهلاك، تخلصت في الوقت ذاته من الشاعر الواقف عند الخيمة، مات الشاعر المشدود إلى وتد التاريخ، تناثرت أشلاؤه مقاطعَ شعرية، بدأت تصغر عناصره حتى كادت تنمحي.

غير أن ذلك الذي اختفى ما زال داخلنا يكتب بنا قصيدته، أتمنى أن تنجو الأقلام الواعدة من العالم القديم.
  
الحرف الثاني: أتمنى أن يصنع الشباب فضاءات تليق بقصائدهم، لعلها تسلم من رائحة عفن كريه ينبعث من صدر العالم.
   الحرف الثالث: أهدي للأحبة هذه الباقة من ديوان: زهرة واحدة تكفي..
الشعرُ نبيذ أهلِ القلق 
خبزهم 
دمٌ وندامةٌ 
وانتظار
لَهُم أشرعةٌ في بحورٍ ليست لهُم 
ولهم ولهٌ
ولهم سَكَرات 
كأنَّ الصحْوَ ليسَ لهم.

  >  حاوره : عبد الله مرجان

Related posts

Top