هل يتحول القضاء في الجزائر من «قطاع» إلى سلطة مستقلة؟

يدخل إضراب القضاة الذي دعت له نقابتهم الوطنية في الجزائر، أسبوعه الثاني، من دون أن تظهر في الأفق بوادر حل لهذه المواجهة، التي اندلعت بين وزير العدل ـ القاضي السابق – وزملائه القضاة، الذين أعابوا عليه ما تضمنته الحركة السنوية التي تم بموجبها، تحويل عدد كبير جدا من القضاء ـ حوالي ثلاثة آلاف قاض ـ إلى مناصب عمل جديدة خارج التوقيت المتعارف عليه، نهاية شهر أكتوبر، تحويل تم من دون استشارة النقابة، ولا حتى المجلس الأعلى للقضاء، الذي يترأسه رئيس الجمهورية، الذي ينوبه وزير العدل، كتعبير صارخ عن عدم استقلاليته ورضوخه لإملاءات السلطة التنفيذية.
قرارات تحويل مست عددا كبيرا من القضاة، وأثارت موجة من الشكوك حول دوافعها في هذا الظرف السياسي الحساس، تحديدا بعد الموقف المؤيد لهذه الحركة الاحتجاجية الذي أعلنه المجلس الأعلى الذي جاء في بيانه، أنه لم يباشر صلاحياته القانونية في إعداد وتقرير هذه الحركة السنوية، واقتصر دوره على الاطلاع عرضيا على القائمة النهائية المعدة، من قبل وزارة العدل.
لم يكتف القضاة، بتوقيف العمل للأسبوع الثاني على التوالي، بل خرجوا في مسيرات وطنية ووقفات احتجاجية، للزيادة في القيمة التعبيرية لإضرابهم، التي تصر وزارة العدل على انهم ممنوعون عن القيام به، بصريح القانون الذي ينظم المهنة. مسيرات ووقفات احتجاجية قام بها القضاة، قربتهم جدا من جو الحراك الشعبي الذي تعرفه الجزائر، رغم التحفظات التي ما زالت قائمة حولهم كممارسات مهنية، من قبل جزء كبير من الحراك، والكثير من زملائهم المحامين الذين يشككون في مصداقية هذا التقرب من الحراك الشعبي، اعتمادا في الأساس على الممارسات المهنية للقضاة، التي ما زالت بعيدة جدا كقاعدة عامة، عن مقاييس الاستقلالية التي يطالب بها المواطن الجزائري.
ممارسات مهنية شابها تاريخيا الكثير من العيوب، يمكن اختصارها إجمالا في عدم استقلالية القاضي الجزائري، كقاعدة عامة، وتحكم السلطة التنفيذية في قراراته التي يختصرها الجزائريون في تعابير شائعة «كحكم التلفون» أو «قضاء الليل» المشهور. عدم استقلالية القاضي التي ترسخت مع الوقت وأصبحت شبه قاعدة عامة، تركت آثارها على النظرة الشعبية السلبية للقاضي والقاضية، بفعل التأنيث الكبير الذي عرفته هذه المهنة، كغيرها من المهن ذات التأهيل العالي في الجزائر، بعد تأنيث الجامعة. وهو ما يحيلنا إلى قضية تكوين القضاة ومهن العدالة بصفة عامة في الجزائر، التي فقدت الكثير من بريقها العلمي، وتحكمها في مفاصل المهنة في السنوات الأخيرة، يشكو منها كل من تعامل مع العدالة كمنفذ لقراراتها. بعد التضخم الديموغرافي الذي عرفته هذه المهن وتدهور شروط التعليم والعمل داخلها. ورفع كل الحواجز المهنية التي حمت هذه المهن في تجارب دولية ناجحة. بقت فيها مهنة القضاة مصانة ومحترمة من الأقران قبل الغرباء. تدهور في أداء المهنة وشروط القيام بها والانضمام لها، ساعد موضوعيا في تحويل العدالة من سلطة يفترض انها مستقلة، إلى قطاع تسيره كاتبة الوزير والمدير، بالتلفون وصاحب الشكارة لاحقا ورجل الأعمال الفاسد.
وضع يتطلب من كل مسعى إصلاحي لهذا القطاع الاستراتيجي، التركيز على مدخلات القطاع وليس مخرجاته فقط، وهي في حالة سكون، كما يريد أن يتعامل معها البعض وكأنه محكوم عليها بالبقاء في الحال نفسه إلى الأبد. مقابل النظرة الديناميكية التي تخبرنا، أن بقاء الحال من المحال، في سياق هذا الظرف السياسي المتحرك الذي تعيشه الجزائر، بعد انطلاق حراكها الشعبي والمطالب الشعبية القوية بالإصلاح في كل المجالات، انطلاقا من المستوى السياسي. في وقت عادت فيه بقوة الاحتجاجات الشعبية، كما عبرت عنه مسيرات أول نوفمبر/تشرين الثاني 2019، يكون من المنطقي العمل، على بعث روح هذا الحراك الشعبي، بين أبناء هذه الفئات المهنية المرتبطة بالعدالة، التي تُكوّن أحد روافد الفئات الوسطى في الجزائر، عانت من تهميش كبير، من نظام سياسي واقتصادي، فرض عليها التحول إلى العمل النقابي، كما هو بارز لدى القضاة والأطباء وأساتذة الجامعات، تحولت بموجبه نقابات هذه الفئات إلى فاعل جماعي رئيسي، ليس في المجال الاجتماعي المطلبي، بل السياسي، كما ظهر جليا بمناسبة الاضراب العام الأخير، الذي دعت اليه النقابات المستقلة، كنتيجة موضوعية لانحياز النظام السياسي في السنوات الأخيرة إلى فئات أوليغارشية، بدل الفئات الوسطى التي تخلى عنها، فتخلت عنه، هي التي كانت يده السياسية الطويلة، بل مخلبه.
تحولات اجتماعية بنكهة سياسية، تفسر تسارع أزمة النظام السياسي الذي فقد قواعده الاجتماعية التقليدية، من دون أن يتمكن من كسب قواعد جديدة، يمكنه الاعتماد عليها في وقت الشدة، كما هو حاصل هذه الأيام. خاصة عندما يتعلق الأمر بفئات هي في صميم الفعل السياسي والأيديولوجي، الذي يحتاجه أي مجتمع وأي نظام سياسي، ينزع نحو الحد الأدنى من الاستقرار. لنكون بذلك أمام شروط موضوعية تفسر تحرك القضاة وغيرهم من أبناء الفئات الوسطى، أصحاب الحضور القوي داخل التشكيلة الاجتماعية الجزائرية، كمنتج للسياسات الاجتماعية والاقتصادية للدولة الوطنية لفترة طويلة، فشل النظام السياسي في تسييرها ومنحها الآفاق التي تستحقها، وإلا كيف نفسر هجرة الطبيب المتخصص والمهندس، عالي التكوين وصاحب التجربة الطويلة وهو في عمر الستين، إلى كندا الباردة؟ سن كان فيها المهاجر الجزائري إلى اوروبا يعود إلى أحضان عائلته. عندما كانت الهجرة لا تعبر عن هذه الشروخ الاجتماعية والسياسية العميقة التي تعاني منها الجزائر في الوقت الحالي. شروخ في حاجة إلى مسعى يعتمد على المدى الطويل والمتوسط في أحسن الأحوال لرأبها، بعد التشوهات التي الحقها التسيير السياسي للنظام بها لمدة طويلة، يكون على رأسها تحسين وضع هذه الفئات الوسطى، المتعلمة، صاحبة التأهيل العالي، كما هو حال القضاة. المطلوب منهم ليس الدفاع فقط عن شروط عملهم، كما يقومون به على غرار الكثير من الفئات الوسطى التي نظمت نفسها في نقابات، بل المطلوب وربما أكثر، في هذه اللحظة السياسية الحساسة، الانخراط في هذه الهبة الشعبية التي يمثلها الحراك، لعتق الجزائر وتحريرها من هذا النظام الذي تحول إلى خطر محدق بالجميع.

ناصر جابي

كاتب جزائري

Related posts

Top