أدباء مغاربة وعرب وضعوا حدا لحياتهم..

إن من ينتحر ليس بالضرورة إنسانا يكره الحياة، بل إنه يحبها بشدة، غير أنه لم يجدها كما كان يتمناها. العديد ممن اختاروا أن يضعوا حدا لحياتهم تركوا رسائل ذات معنى بليغ، ومنهم من لم يترك أي رسالة، لكن انتحاره كان في حد ذاته خطابا
. بليغا إلى من يهمه الأمر
العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة والعرب وجدوا أنفسهم ذات لحظة يأس
. وإحباط؛ مرغمين على توديع الحياة رغم حبهم الشديد لها
ضمن هذه الفسحة الرمضانية، سيرة لمجموعة من هؤلاء المعذبين على الأرض، إلى
جانب نماذج من إنتاجاتهم الإبداعية، تكريما لأرواحهم الطاهرة

الروائي رجاء عليش

عشت وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء

في سنة 1979 قام رجاء عليش بإطلاق النار على رأسه، وجاء في تقارير رجال الشرطة أن الكاتب المذكور وجد في سيارته منتحرا على مقربة من شقتين كان يمتلكهما في الحي نفسه، ولم تعرف الأسباب الكامنة وراء الانتحار إلا بعد وصول رسالة منه إلى النائب العام فيها اعتراف صريح بالانتحار، ومن أسبابه قال:
“عشت هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء”.
رجاء عليش، كاتب وروائي مصري. كان يشكو من قبحه ومن نفور النساء منه وأكثر ما آلمه تلك التعليقات الجارحة التي تنال من هيئته وقصر قامته؛ فأصدر كتابين: “لا تولد قبيحا” في 221 صفحة والصادر عن دار مدبولي الصغيرة، ورواية “كلهم أعدائي” الواقعة في 539 صفحة والصادرة عن دار أسامة للنشر والتوزيع لعام 1979.
أقدم على الانتحار فور انتهائه من تأليف روايته “كلهم أعدائي” التي كتب على غلافها:
“أرقد أيها القلب المعذب فوق صدر أمك الحنون واسترح إلى الأبد، دع أحلامك الميتة تتفتح كزهرة تعيش مليونًا من السنين، أنت أيها الملاح التائه في بحار الظلمات البعيدة، لقد جئت إلى أمك الأرض لتعيش في حضنها إلى الأبد، ألقيت بمراسيك في المياه الدافئة وأمنت من الخوف، نفضت عن شراعك الثلج والبرودة وأيقظت الشمس في قلبك واسترحت إلى الأبد، نم هانئا سعيدا يا من لم تعرف الراحة في حياتك، أحس بالأمن يا من عشت دائما بعيون مفتوحة من الخوف. الموت أبوك والأرض أمك والسلام رفيقك والأبد عمرك”
كانت الضغوطات الاجتماعية ووحدته من أسباب انتحاره.
*****

مقاطع من كتابه “لا تولد قبيحا”:

القبح يستفز مشاعر الآخرين العنيفة.. كل حاستهم النقدية الساخرة، فيوجهونها بضراوة عنيفة ناحية الإنسان القبيح قاصدين إهانته وتحطيم معنوياته.
إنهم يقفون مدهوشين أمام ظاهرة غريبة لا يفهمونها.. ظاهرة تستفز كل مشاعر الكراهية في داخلهم. كل الثمار المُرة المأساوية التي يصبح القبيح ضحية لها في نهاية الأمر.
لكن إذا قلنا إن القبح هو إحدى العاهات التي تدمر حياة إنسان قبيح، فالغريب أن الإنسان القبيح لا يحس بأي عجز جسماني يمنعه من الاستمتاع الكامل بالحياة كالآخرين. إنه فقط يحس بحاجز شفاف وغير مرئي يحول بينه وبين الاندماج في الحياة.. حاجز من صُنع الآخرين الذين يضمرون له كل الكراهية والشر لمجرد أنه إنسان مختلف قبيح.

***
يقولون عن العالم رغم ذلك إنه عادل ورحيم وإن الناس بسطاء متسامحون.. هؤلاء الناس الطيبون لديهم القدرة الفائقة على تبرير كل جرائم العالم الوحشية، بالذات جريمة قتل معنويات إنسان من حقه أن يعيش كالآخرين. عندما يعجزون عن إقناعك بمنطقهم المتخاذل الشرير، يقولون لك ببساطة شديدة مقززة: نصيبك ستناله في العالم الآخر، حيث كل أنهار العسل واللبن وحيث تستلقي هناك حول شطآنها الدافئة كل حثالة الأرض المنكوبة التي لم تنل حقها في الحياة.

***
أنا رجل بلا امرأة.. بلا حقل للقمح.. بلا كرة للعب .. بلا ذكريات مضيئة.. بلا طريق للمستقبل.
***

الغريب أن الناس يعاقبون الإنسان القبيح على جريمة لم يتركبها هو بل ارتكبت في حقه من جانب قوى مجهولة شيطانية، كان يمكن أن تنكل بهم مثله، لكنهم أفلتوا بمعجزة، بمجرد صدفة حسنة في حياتهم.. يعاقبونه جميعا.
يعاقبونه طول الوقت.. يعاقبونه حتى نهاية حياته.
***
هذه إحدى ميزات الوسامة الشديدة.. أن يصدقك كل الناس، بينما أنت تكذب عليهم، أما هو، الإنسان القبيح المكروه من كل الناس فإن أحدا لن يصدقه حتى لو قال الصدق.. إنه متهم من كل الناس بالكذب.. مشكوك فيه دائما لأنه غريب وقبيح.
***
في حياته كلها لم يشعر أنه ند للآخرين الذين يهزأون به، طول الوقت.
يعذبونه باستمتاع شديد مذهل.. ليس فقط لأنه ضئيل الحجم مشوه الخلقة بصورة مروعة، بل لأنه يشعر في أعماقه بالضآلة أمامهم.. بأن الصراع غير موجود على الإطلاق بالنسبة له أو غير عادل على الأقل. يشعر بأن الهزيمة هي قدره المحتوم في الحياة.. عيون الآخرين تسلط عليه أشعة ساخنة تذيب جدرانه الخارجية المصنوعة من الصفيح. يحس أنه عار أمامها. مجرد من الحماية. أن مصيره معلق برغبتهم في المسالمة أو الصراع، لكنهم وكما عودوه دائما يجنحون إلى الصراع لأنهم متأكدون أنهم سيكسبون المعركة منذ اللحظة الأولى لبدايتها، ولأن المعركة والنتيجة المروعة التي تنتهي إليها تسبب لهم سعادة تهز قلوبهم من الأعماق.

> إعداد: عبد العالي بركات

Related posts

Top