معالم وحضارات اندثرت بسبب الحروب

هناك العديد من اثار الأمم الماضية محى معالمها الزمن بفعل العوامل الطبيعية، غير أن هناك العديد من الحضارات التي اندثرت بسبب الحروب، مثال على ذلك حضارة بغداد القديمة التي دمرتها حروب المغول في العهد القديم.
وتعبر الكثير من المعالم الأثرية والتاريخية عن حضارات عديدة محتها الحروب تماما ولا يعرف عنها شيئا سوى من الكتب، مثل مكتبة الاسكندرية القديمة. في الحروب تسعى كل قوة لطمس معالم القوى الأخرى من تاريخ وكتابة ومعالم وثقافة شعب، أما عن طريق الحرق مثل ما حدث بالإسكندرية القديمة أو عن طريق رمي وحرق الكتب مثل ما حدث قديما ببغداد أو عن طريق هدم الأثار وبقايا تلك الشعوب وتراثها المعماري والحضاري أو عن طريق تهجير أهلها منها مثل ما حدث بالأندلس. فالحروب تبقى آثارها بعدما تسكن أصوات المدافع والرصاص. يدفن القتلى ويعالج الجرحى وتبقى المدن المدمرة ركام وبقايا حطام يعاد بناء بعضه ويبقى آخر شاهدا على تلك الصراعات.
بيان اليوم ترصد بعض الأماكن التاريخية التي دمرتها الحروب

تنتصب تماثيل “الموي” في جزيرة “ايستر” بمهابة وسكينة مديرة ظهورها للبحر. وبينما تقذف الرياح بالمياه المالحة على اجسادها الثابتة، تواصل محاجرها الخالية من العيون التحديق في السماء ويبدو ان هذه التماثيل المغلفة بالأسرار لا تفشي اي شيء منها.
سميت جزيرة “ايستر” بهذا الاسم نسبة الى الهولندي جاكوب روجيفين الذي وصل اليها في يوم عيد الفصح السادس من ابريل عام 1722، ولكن اسمها الاصلي وهو “رابانوي” الذي يترجم في بعض الأحيان الى مركز الأرض يعتبر أكثر دقة. وتعتبر هذه الأرض الصخرية التي تبعد قرابة 025,4 كيلومترا عن ساحل تشيلي و185,4 كيلومترا عن تاهيتي في بولينيزيا الفرنسية، والتي لا يزيد حجمها عن ثلث حجم ولاية نيوجيرسي الأميركية ـ تعتبر أكثر الأراضي المأهولة عزلة على وجه الأرض. ويعتبر تاريخ شعب “رابانوي” ممزقا، ولكن أجزاء صغيرة منه لاتزال حية لم تندثر. وبحسب المعلومات القليلة المتوفرة عن تاريخهم، فانهم قد عاشوا ألف عام معزولين عن باقي أجزاء العالم المتحضر. وكانت لديهم ثقافة تقوم على عبادة الأجداد، حيث كانت القبائل تتنافس فيما بينها على بناء أكبر وأفضل تماثيل “الموي” ـ وهي تماثيل ضخمة تمثل اجدادهم ـ وذلك من أجل ضمان الحماية لها. ولكن ذلك المجتمع الفاضل تلاشى وانقلب الناس ضد بعضهم البعض في صراعهم من أجل البقاء. ولم ينقذهم من هذا الوضع سوى ظهور دين جديد، عبدوا فيه كائنا غريباً، نصفه طير ونصفه الآخر إنسان. ثم جاء الأوروبيون ودمروا ما تبقى منهم بإدخال أمراض غريبة على المجتمع وجلب أنواع من النباتات والحيوانات قضت على النباتات والحيوانات المحلية الأصلية. وهكذا ضاعت الحقيقة المتعلقة بحضارة “رابانوي”. انتشرت التنبؤات بشأن شعب جزيرة “إيستر” منذ بدء أولى الحفريات الأثرية لعلماء هواة في القرن التاسع عشر.
والآن، تقوم الجزيرة تدريجيا بالكشف عن أسرارها. فلقد أمضى فريق من الأخصائيين من علماء الآثار وعلماء الأنثروبولوجيا إلى علماء النبات وخبراء في اللغة والمنحوتات الأثرية ـ أمضوا عشرة أعوام يفصلون الحقيقة عن الخيال. وفي عام 1989، دعت الحكومة التشيلية، التي تمتلك جزيرة “ايستر”، غوسيب اوريفسي، مدير المركز الايطالي للبحوث الأثرية لفترة ما قبل اكتشاف أميركا ـ دعته لزيارة الجزيرة. وقام أوريفيسي المتأثر بالثروة الأثرية المتبقية، بالترتيب للبدء بعمليات حفر أثرية في العام التالي، وأجري تنسيقا بين فريق من الخبراء، وكل واحد منهم مختص بمجاله، قاموا بزيارة الجزيرة لعدة أسابيع في المرة الواحدة خلال الأعوام العشرة التي تلت البدء بالحفر.
ويقول دكتور أندريا دروسيني، وهو أستاذ في الانثروبولوجيا بجامعة بادوا في ايطاليا، والذي دعي من قبل أوريفيسي لزيارة الجزيرة: معظم البحوث التي جرت على الجزيرة قبلنا، باستثناء بعضها، كانت تتم من قبل باحثين فرديين، في حين ان هدف حملتنا كان جعل اخصائيين مختلفين من مجالات مختلفة يعملون معاً في الوقت نفسه وفي المنطقة نفسها”.
هناك 212 موقعاً أثريا على الجزيرة، ولهذا فإن الخبراء ركزوا على مناطق مختلفة. فعلى سبيل المثال، قامت ميشيل وكاثرين اورلياك من متحف التاريخ الطبيعي في باريس، بجمع قطع قديمة من الفحم قامت بفحصها تحت مجهر الكتروني. ومن النتائج التي حصلتا عليها، استطاعتا ان تتعرفا على الأشجار التي أصبحت منقرضة منذ ذلك الحين ولكنها كانت تغطي الجزيرة في عصر ثقافة “الموي” كما قامتا ايضا بدراسة دلائل على الكثير من الحرائق غير العادية منذ منتصف القرن السادس عشر، والتي تتزامن مع سقوط ديانة الاجداد.
وركز دروسيني واوريفيسي بشكل أساسي على منطقة “آهوناوناو” التي تشكلت عندما اندمج بركانين من براكينها الثلاثة. وقد تبين من خلال الدراسة انه لم يكن هنا أي نشاط بركاني منذ استيطان البشر على الجزيرة لأول مرة، وبالتالي فان اي بقايا تساعد في تحديد تاريخ وصول البشر اليها لأول مرة بشكل دقيق. وكانت طبقات الرمل والطمي في هذه المنطقة المحمية نسبيا قد حفظت الكثير من العظام من التلف بفعل الرياح المحملة بالملح، ما جعل من السهل تحليلها.
يعتقد بأن شعب رابانوي قام باستيطان جزيرة ايستر في حوالي العام السابع للميلاد، ولكن اللقى الاثرية التي تم العثور عليها في هذه الحملة توحي بأنهم ربما وصلوا اليها قبل ذلك بثلاثة قرون. ولم يكن أحد متأكدا من أصول هذا الشعب، فمنهم من قال إنهم كانوا ينحدرون من أصول بولنيزية، وهناك من قال إنهم جاءوا من أميركا الجنوبية. ولكن الجزء اليسير من التقاليد الباقية بالإضافة إلى اشكال بعض التماثيل والمنحوتات يشير إلى أن شعب “رابانوي” هو من أصل بولينيزي وليس من أميركا الجنوبية. كما أن البحوث الوراثية الحديثة على العظام والاسنان تدعم بشكل قوي هذه النظرية. فقد أظهرت التحاليل التي اجراها دروسيني والبروفيسور داريس سويندلر وهو زميل من جامعة واشنطن في سياتل، على أسنان عثر عليها في الجزيرة أن تلك الأسنان تحتوي على جذور ثلاثة بدلا من اثنين وهذه صفة وراثية خاصة تلاحظ لدى الشغب البولينيزي. ان تاريخ هذه الجزيرة الصغيرة يستخدم عادة كاستعارة مجازية للحالة الراهنة للأرض ككل، لا في اظهار مدى سهولة تدمير الأسنان للموارد الطبيعية فحسب وإنما أيضا في وجود الأمل حتى في أحلك الظروف وأسوئها.

> إعداد: سعيد أيت اومزيد

Related posts

Top