البعثات التعليمية في العهد الحسني -الحلقة 5-

لم يطرح موضوع الإصلاح في المغرب إلا بعد الاصطدام بالدول الأوروبية من خلال حدثين كان لهما أثر بالغ في نفوس المغاربة. يتجلى الأول في هزيمة المغرب أمام القوات الفرنسية في معركة إيسلي، حيث شكلت هذه الهزيمة التي لم يكن أشد المتشائمين بتوقعها، صدمة للنخبة السياسية المغربية، وطرح سؤال الذات لدى النخبة المثقفة والقادة السياسيين. ويتجلى الثاني في الهزيمة النكراء في حرب تطوان أمام إسبانيا، حيث استفحلت الأوضاع مرة أخرى، وانعكس ذلك على الأوضاع الداخلية وزادتها تأزما، وفقدت الدولة المغربية هيبتها السياسية والعسكرية في الساحة الدولية فانكسرت شوكتها. كما كشفت معركة إيسلي عن تقادم النظم السياسية والعسكرية والتعليمية المغربية التي اعتمدتها سياسة البلاد في خضم صيرورتها التاريخية، فأصبح الإصلاح ضرورة ملحة تفرضه الظرفية آنذاك، وشمل بالخصوص الجانب العسكري الذي أخذ حيزا مهما. كما أن الجانب التعليمي نال هو الآخر قسطا بعكس الأول، من خلال إرسال بعثات طلابية إلى الخارج.
شكلت البعثات التعليمية في العهد الحسني، لحظة تاريخية مهمة في التعليم العصري، وكان الهدف المقصود من إرسال البعثات توفير الكفاءات الوطنية اللازمة لتنفيذ المشاريع الإصلاحية التي برمجها السلطان في سياسته. فانكب اهتمامه على هذه البعثات لتنفيذ طموحه السياسي بعد عودتها للنهوض بالمرافق الحيوية، الشيء الذي نلمسه في التوزيع الجغرافي لطلبة البعثات، حيث تم توزيعهم على العديد من الدول الأوروبية.
سنركز في هذه الحلقات على أن نتائج البعثات لم تكن بارزة ومؤثرة في بناء دولة مغربية حديثة، كل ما سبق ذكره يجعلنا نطرح مجموعة من الإشكالات التي حاولنا الإجابة عليها بالتفصيل في الفصول الآتية:
كيف جرى انتقاء الطلبة الواقع عليهم الاختيار بغية إرسالهم للدراسة بالخارج ؟ وهل تمت دراستهم في ظروف ملائمة ؟ وإلي أي حد يمكن تفسير سيطرة العائلات الكبرى على السير العام لهذا المشروع الإصلاحي؟ وهل كان هناك تنويع في البلدان الأوروبية التي قصدها طلبة البعثات لإكمال دراستهم بها ؟ هل يمكننا الحديث عن تقييم الحصيلة إذا كانت إيجابية أم سلبية ؟ وما هي العوامل المؤثرة على المشروع الإصلاحي وساهمت في إفشاله

ويمكن استنتاج آلية التمويل من خلال الرسائل السلطانية، ومنها رسالة وجهها المولى الحسن إلى الحاج محمد بن العربي الطريس، قائلا : «… وبعد، فنأمرك أن توجه للمتعلمين بإفرانسة مؤونة خمسة أشهر أخرى على يد الباشدور وذلك انصرام الخمسة الأشهر الأولى التي وجهت لهم مئونتها، وكتبنا للأمناء بمراسي طنجة بذلك يصله طيه، والسلام.«
يمكن رصد دور المخزن في تمويل البعثات التعليمية من خلال الكثير من المراسلات والظهائر، فقد أصدر السلطان الحسن الأول في عام 1305هـ/1888م ظهير خاطب فيه محمد بركاش قائلا« : وبعد، وصلنا كتابك بأن نائب الفرنصيص طلب منك مشاهرة المتعلمين الذين بباريز عن تسعة أشهر، وقدرها خمس عشرة ريال وأربعة وستون ريال… فقد أمرناهم -الأمناء- بتنفيذ العدد المذكور له، وبأن يكونوا يدفعون واجب كل ثلاثة أشهر في المستقبل«
وبخصوص البعثة التي قصدت فرنسا وكان محمد بن الكعاب الشركي أحد أفرادها، فقد تكفل المخزن بنفقات سفر البعثة ومستلزماتها ومصاريف إقامة الطلبة بالديار الفرنسية، حيث كان هؤلاء الطلبة يتقاضون منحة تقدر بثلاثين مثقالا -دون تحديد زمني- لا تتضمن مصاريف الأكل والشرب. وإذا كانت الإشارات القليلة جدا التي تملكها لا تسمح بإعطاء صورة واضحة ومفصلة عن الجانب المالي، وانعكاسه السلبي أو الإيجابي على وضعية طلبة البعثة، وظروف دراستهم في فرنسا، فإن رسالة ابن الكعاب بتاريخ فبراير 1882 تكشف أن السنتين الأولتين من الإقامة في باريس ،مرت في ظروف حسنة.
نستنتج مما سبق أن المخزن كان الجهة الوحيدة التي تكفلت بتمويل البعثات التعليمية إلى أوروبا وهو ما يؤكد في حد ذاته وجود جهاز إداري -دولة- تكفل بمختلف مراحل تمويل هذه البعثات كما تقرأ في هذه المضامين غياب دور أي فئة مجتمعية أو أسر مرموقة، تتكلف بمستلزمات هذا الفعل التحديثي وتنهض بها، أو تنافس أو تقوم بدور المخزن في هذا المجال عانى الطلبة المغاربة المتواجدين بالأقطار الأوروبية، من بعض المشاكل المادية، ازدادت استفحالا ووصل صداها إلى معلميهم الذين يتلقون على أيديهم تكوينا في شتى المجالات، الأمر الذي كان يؤثر في توازنهم النفسي وعطائهم الدراسي. حيث تراكمت على البعثة التي كانت تتابع تكوينها بمدينة باريس نفقات مدة تسعة أشهر ،الشيء الذي جعل ممثل فرنسا بالمغرب يطالب نائب السلطان بواجب تسديدها ،مؤكدا على ضرورة احترام موعد إيفائها على رأس كل ثلاثة أشهر، كما أن مصدر هذه النفقات كان يأتي من مداخيل أمانة المراسي، حيث كان الأمناء مكلفين بصرف النفقات اللازمة للدولة، خاصة المنح الدراسية لفائدة أفراد البعثات الطلابية.
أما عن قيمة المنحة التي كانت تسلم للطلبة، فمن الصعب تحديدها لعدم معرفتنا فيما إذا كانوا يتقاضونها خلال كل شهر أو ثلاثة أشهر أو أكثر وبشكل منتظم، ومن خلال مراسلات الطالب محمد الكعاب مع بعض أفراد عائلته وبعض المسؤولين المخزنيين، فقد وردت في رسالة جوابية من أخيه تفيد أن الطلبة كانوا يتقاضون منحة تقدر بثلاثين مثقال دون أي تحديد زمني.
كان المخزن يتأخر في صرف المستحقات المتعلمين، خصوصا في أثناء طول إقامتهم في دول أوروبا؛ فقد طالب« نائب الفرنصيص» في عام 1297هـ/1880م محمد بركاش بـ«مشاهرة المتعلمين الذين بباريز عن تسعة أشهر وقدرها خمس عشرة مائة ريال وأربعة وستون ريالا»..
كما كتب الطالب محمد الكعاب تقريرا عن وضع الطلبة في بلجيكا1301هـ/1884م، أوضح من خلاله ضعف حالتهم المادية وتراكم الديون على رفاقه الطلبة، المغاربة من الجهات البلجيكية التي كانت تنفق عليهم، وختم تقريره قائلا :
«وإن هذه سبعة أعوام ونصف باقين مفقودين عن الأهل والوطن، والأعداء لا ينظرون إلينا إلا بعين الاحتقار حتى صرنا لا نستلذ طعاما ولا شرابا».
نستخلص أن البعثة الطلابية التي كانت تدرس ببلجيكا، عانت من وضعية مادية صعبة وهو ما أكده الطالب محمد الكعاب من خلال الرسالة التي بعثها إلى النائب السلطاني محمد بركاش بتاريخ 18 يونيو 1884. ضمن فيها توضيحات مفصلة حول مستلزمات إقامة هذه البعثة والمصاريف التي سيتطلبها تكوين الطلبة من حيث الملبس ورواتب الأساتذة المشرفين على تدريسهم، بالإضافة إلى واجب المنحة التي سيتقاضونها.

> بقلم: يونس برحمة

Related posts

Top