فرنسا متعبة؟

خلال الأيام الأخيرة، عاشت فرنسا فترات عصيبة، على المستوى الاعتباري أكثر مما على المستوى الاقتصادي. قضية أصحاب السترات الصفراء الذين يحاولون بكل الوسائل زحزحة السلطة من مكانها، تقدم عن هذا البلد صورة خاصة، حيث العنف يتغلب على شرعية النظام، وعلى مبادئ وقيم الديمقراطية. الخسائر الهامة التي أحدثها اللصوص المندسون بين المتظاهرين أبرزت إلى أي حد أن سلطة القوى الأمنية ضعفت خلال بعض أيام السبت.   ماكرون حاول لعب دور تحكيمي من خلال إطلاق حملة نقاش وطني. لكن الانتقادات هطلت عليه من كل مكان، واستمر بعض أصحاب السترات الصفراء في المطالبة برأسه، أو بتعبير آخر: المطالبة بانسحابه.

خلال ذلك، أفلست المئات من الأنشطة التجارية الصغرى ووجد العاملون فيها أنفسهم في عطالة. المحلات التجارية الفاخرة وضعت واقيات على واجهاتها، لم يعد الوضع الأمني مضمونا تماما.

 نادرا ما كنا نشاهد فرنسا مقسمة إلى هذا الحد، يسار آفل، يمين يجد صعوبة في إصلاح أموره، ويمين متطرف يتقوى.

الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي في ماي القادم ستشكل امتحانا للحكومة الحالية. استطلاعات الرأي تضع التجمع الوطني (مارين لوبين) وحركة إلى الأمام (ماكرون) في رتبة متساوية.

من جهة أخرى، يظل الباريسيون مخلصين لسمعتهم: معارضون وغاضبون.   

 العنصرية قائمة. مناهضة السامية تعلن عن نفسها أكثر فأكثر. قبور يهودية وأخرى إسلامية، تتعرض للتدنيس.

 أصبحت باريس العاصمة الأكثر غلاء في العالم إلى جانب هونغ كونغ وجنيف. البنوك تنهار تحت السيولات المالية التي تحاصر الاقتصاد (أزيد من 40 مليار أورو). الفرنسيون يذخرون أو يستثمرون في قطاع العقار؛ مما أصاب هذا القطاع بالجنون.

 أحد الأصدقاء الذي لم يكن قد زار فرنسا منذ عشر سنوات، لاحظ أن البلد فقد شيئا من طاقته وتنافسيته. صحيح أن الخدمات على الطريقة الفرنسية في حالة سيئة، بالأخص في باريس. يتم استقبالنا في المطاعم بفتور. الناس في حالة مزاجية سيئة. إنهم غير مسرورين للقيام بهذا العمل.  يعتبرون أنهم يستحقون أفضل من ذلك. عندما تحاول ربط الاتصال بإحدى الإدارات، تجد نفسك في مواجهة تسجيل صوتي، يجعلك الهاتف تنتظر عشرات الدقائق وهو يسمعك موسيقى فظيعة لكي يطلب منك في نهاية المطاف أن تعيد الاتصال في وقت لاحق لأن “كل وكلائنا مشغولون”. 

 الشركات الكبرى تفوض العمل للمقاولات الصغرى التي غالبا ما تكون مؤهلاتها في وضع إشكالي. أحد ما قال لي: “الفرنسيون لا يشتغلون، إنهم يشغلون المهاجرين”.    

 منذ عدة أشهر صارت باريس عبارة عن ورشة، حولت حياة السكان إلى جحيم. العمدة “آن هيدالغو” أطلقت في وقت واحد أكثر من 260 ورشة عمل في الأزقة والساحات الكبرى للعاصمة. النتيجة، حركة النقل صارت عسيرة جدا. الحافلات غيرت اتجاهها. الازدحام الطرقي تضاعف وتسبب في تلوث شديد. مدارس أقفلت بسبب ارتفاع نسبة التلوث التي بلغت مستوى خطيرا. الجميع تقريبا يحتج. العمدة لا تصغي لأحد وتتقدم لولاية جديدة. باريس صارت المدينة الأوروبية الأكثر تلوثا، إلى حد أن إحدى الأسبوعيات وضعت هذا العنوان “باريس مدينة القمامة”. الفئران تسرح في كل مكان. المزيد من الأشخاص المسنين يصابون بالتهابات حادة في الجهاز التنفسي (الموسيقار ميشال لوغراند مات بسبب ذلك).     

 إنه في هذه الباريس حيث لا شيء على ما يرام، يواصل أصحاب السترات الصفراء اجتماعاتهم كل يوم سبت ويفسدون القليل من الهدوء الذي يتخلف من الأشغال التي لا حصر لها. قبل بضع سنوات نشر “مان فيليب سولرس” مقالا بعنوان “فرنسا المتعفنة” (2007) حيث ندد بمجتمع يزداد انطواء على نفسه أكثر فأكثر.

 اليوم، البعض يتحدث عن التعب. إذن، فرنسا؟ متعبة؟ هذا حسب الاقتضاء، فرنسا الأغنياء، الأغنياء جدا، في وضع على ما يرام، وإن كانوا يعبرون عن احتجاجهم من وقت إلى آخر. الطبقة المتوسطة والطبقة الفقيرة (8 ملايين فرنسي يعيشون تحت سقف الفقر) يعانون، بعضهم التحقوا بأصحاب السترات الصفراء.    

الشعبوية على الطريقة الإيطالية تهدد، اليمين المتطرف المرشح الأقوى، وماكرون يتابع سيره بدون الإصغاء إلى مستشاريه. النقاشات في التلفزيون ما فتئت تزداد عنفا وابتذالا. وآخر رواية لميشال هولبيك بيع منها أكثر من أربعمائة ألف نسخة، كتاب مواكب لهذا الواقع الحالك، هذه الرداءة التي تتعمم في كل مكان من مجتمع يقبع في انحطاط لا مسمى له وبعض انعكاسات العنصرية وغياب الوضوح.

في ما مضى، كان هناك مفكرون، فلاسفة يرشدون للطريق. كان هناك جون بول سارتر، جون جينيه، ميشال فوكو، فرنسوا مورياك، جيل دولوز، فيليكس غواطاري، إلى آخره. آخر من قام بتحريك الجمهور بواسطة رسالة تنديدية صغيرة “اغضبوا”، كان هو “سطيفان هوسيل”. كتابه كان قد بيع منه ثلاثة ملايين نسخة. كتاب، صرخة، تحريض على امتلاك وعي. إن قيامه في هذا الكتاب بإدانة سياسة الاحتلال الإسرائيلي جعله عرضة لانتقاد عنيف وتوبيخ حتى، من طرف بعض المناضلين المؤيدين لسياسة إسرائيل.       

بقلم : الطاهر بنجلون

> ترجمة: عبد العالي بركات

الوسوم ,

Related posts

Top