قراءة في رواية “اتلايتماس” للكاتب المغربي محمد بودشيش

استــهــلال:

“إن الهجرة تلاحقنا، ولن تحيد عنا، ولا ننفك منها الى أبد الآبدين”ص: 124
أجد أن الانطلاق من هذه الجملة السردية هو السبيل لقراءة رواية “اتلايتماس” لمحمد بودشيش، ذات الطابع التاريخي الأنتروبولوجي، ف”الهجرة تلاحقنا” إذ بدأت منذ زمن سحيق، ثم “لن تحيد عنا”، لأنها معنا في الحاضر أيضا، و”لا ننفك منها إلى أبد الآبدين” دلالة واضحة على الاستمرارية في الزمان الآتي، إنها هجرة تسير عبر إيقاعات زمنية ومكانية، وتسيجها تقنيات السرد والوصف والحوار، بين شخوص أثث فضاء المكان المتعدد والزمان المتنوع، فترسم ملامح قبيلة “آيت سعيد” ومكوناتها المجتمعية في قلب الريف المغربي.
1-مواسم الهجرة: الحركة الدائرية:
تناول السارد في هذه الرواية أشكال الهجرة انطلاقا من مركز قبيلة “أمجاو” المشكلة لقبائل “آيت سعيد”، حيث الريف الشامخ يقف في وجه الاستعمار الإسباني، وحيث التضييق على أبناء القبيلة الذين يعتمدون في مورد حياتهم ومعيشتهم على الفلاحة والزراعة وتربية المواشي، إلا أنه مع جفاف الأرض وشح السماء، وجد أبناء القبيلة أنفسهم مضطرين للحركة عبر هجرات متنوعة، ومتعددة الاتجاهات:
الموسم الأول: الهجرة نحو إسبانيا: هجرة الأب “بوزيان” والتحاقه بالجندية الاسبانية في عهد فرانكو.
الموسم الثاني: الهجرة نحو “الجزائر”:هجرة الحبيب “حدو” قصد العمل في حقول العنب الفرنسية، حيث رفض الجزائريون العمل في حقولهم تحت إمرة الفرنسيين المستعمرين.
الموسم الثالث: الهجرة نحو فرنسا:هجرة الابن “مزيان” لتحسين وضعيته بعدما عرفت الحياة تحولات عميقة، رفض على إثرها الاهتمام بالزراعة التي لا تكفي حتى لمأكل الدابة التي تحرث أرضها،
فيتضح إذاً أن الهجرة قد اتخذت شكلا دائريا، حيث بدأت بالاتجاه نحو الشمال متخذة إسبانيا وجهة أولى، ثم في حركة نصف دائرية انعكفت نحو الشرق حيث الجزائر “لالجيري”، ثم ستعود مرة أخرى بعد الانطلاق من المركز نفسه “قبيلة امجاو” إلى الشمال وبالأخص فرنسا، وما بين هذه المواسم تقف “اتلايتماس” في موقف المودعة الحزينة التي لا تجد غير دموع الحسرة على الأب “بوزيان” الذي غادرهم وقضى نحبه هناك أواخر نوفمبر عام 1938 برغم محاولات بزاح إنقاده، يقول: “أما والدها فقد قضى نحبه مع آخرين في الفوج نفسه، وفي المعركة ذاتها”.
ثم في الموسم الثاني كانت دموع الحب على “حدو” الحبيب الذي غادرها وقد زادها مرارة وكآبة، حاول إقناعها بأسباب الهجرة “تطلعت إلى وجهه متسائلة: -أتهاجر؟
-….إنك تلتقين ببنات أموح اعميش عند العين وقد رأيت ماذا يلبسن وينتعلن… لو لم يشتغل أموح الموسم الماضي في للجيري، هل كانت ستلبس إزار بوغطايا وتحزمه بحزام المجدول الذي أتى به من هناك، وتغطي رأسها بتلك السبنية ذات الأغراس والتي تزينت بهم في حفل ختان ابن خالك كما قلت لي؟”.
وفي الموسم الثالث كانت دموع الحنين على الإبن “مزيان” الذي قرر مغادرة البلد بعد حصوله على الشهادة الجامعية، رافضا الاشتغال في الأرض والحرث، موليا وجهه شطر الشمال، قال:”أريد العبور/قالت إلى أين؟ -أجابها إلى الضفة الأخرى.. إلى الخارج يا أماه”.
فهل كانت “اتلايتماس” فعلا إسما على مسمى، واستطاعت أن تحقق الفأل الحسن الذي يدل عليه اسمها، وهل استطاعت أن تحقق البشارة لأهلها؟.
2-التوحد في المقاصد الجوهرية الهجرة:
-هجرة الأب: “”إن كل حرب ثمنها الموت من أجل الحرية والعيش الكريم، أما هاته الحرب فكانت من أجل إطعام أفواه” .
-هجرة الحبيب ومعه أبناء قبيلة آيت سعيد: “إن ربع سكان آيت سعيد قد هاجروا للعمل خلال موسم الحصاد هذا، ثم إنها هجرة موسمية للعمل ولا غير” .
-هجرة الإبن: “ماذا ستعطيني القطع الأرضية بمساحتها القليلة، تسترني؟ لوحدي أم أنا والزوجة التي تريدين أن أقترن بها؟ والتي لا تكفي شظف العيش؟”، وجاء أيضا في الرواية “أحيانا ينظر إلى نفسه على أنه مجرد آلة رخيصة تشتغل وقت أريد لها أن تشتغل وترمى متى تعطلت، لكنه أحيانا أخرى يحمد الله على أن رزقه بساعات العمل هاته التي تغطي نقودها مصاريفه ويعين ببعضها أهله في البلد”.
إن استقراء هذه المقاطع التمثيلية يبين بوضوح العوامل الرئيسة التي كانت بمثابة المحرك الأصلي للهجرة في اتجاهاتها المتعددة، وعبر مسارات الزمن واختلاف الأجيال، فالهجرة لم تكن إلا لغرض واحد وموحد وهو البحث عن لقمة عيش تكفي المهاجر وأسرته الصغيرة ذل السؤال وشظف الحياة القاسية، رغم اختلاف الأزمنة وتعدد الأجيال.
3-تشكيل الايقاع السردي وأبعاده الدلالية:
3-1-إيقاع الزمن:
أحداث الرواية كلها تدور في الزمن الماضي الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة إيقاعات زمنية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمواسم الهجرة، والتي يستهلها السرد الروائي بتقنية الفلاش باك، فيشعر القارئ أنه يبدأ من نقطة قريبة زمنيا وهو عام 1992، أواخر شهر يوليوز يوم أتم الابن “مزيان” فرحة اتلايتماس بحصوله على الشهادة الجامعية، فيتراجع السرد إلى الوراء ليصل التبئير إلى ايقاع الزمن الأوسط، حيث مرحلة الشباب التي تفتقت فيها علاقة الحب بينها وبين زوجها حدو، “دغدغتها ذكريات أثار بعضها فيها الحنان والحب والاطمئنان والبعض الآخر أيقظ فيها الأسى والألم فأعادتها إلى سنوات خلت، إلى مقتبل عمرها وسنوات شبابها، إلى تلك الأيام التي كانت تملأ فيها جرة الماء من العين نفسها التي كان يملأ منها حبيبها جراره، ويسقيان معها منها الماء الشروب”، ويستمر التبئير وصولا إلى زمن سحيق حيث هجرة الأب إلى إسبانيا للمشاركة في التجريدة العسكرية في الحرب الأهلية الإسبانية على عهد فرانكو.
– الإيقاع الأول: الزمن الماضي الموغل: حيث تسرد الرواية قصة اتلايتماس وهي تسترجع زمن هجرة الأب إلى إسبانيا.
-الإيقاع الثاني: الزمن الماضي المتدثر بلحاف الحاضر: وهو زمن حوار اتلايتماس مع الحبيب الذي ينوي السفر إلى الجزائر لتحسين الأوضاع وتمكنه من تامين مصاريف الزواج منها.
-الإيقاع الثالث: الزمن الماضي الممتد للمستقبل، حيث مزيان ابن اتلايتماس يقرر السفر إلى فرنسا بعد نيله الشهادة، متواريا في اسم ابن عمه سمير، وتمكنه من التعرف على “فرونسواز” التي ستكون سبيل خلاصه من الفقر والهرب من الشرطة الفرنسية بسبب عدم توفره على أوراق الإقامة القانونية.
يتبن من خلال هذه الإيقاعات السردية الثلاثة أنها تختلف من حيث المساحة الزمنية المخصصة لكل مقطع سردي، إذا اعتمدنا عدد صفحات المقطع الأول فهو يمتد على مساحة الفصل الأول من الصفحة 13 إلى الصفحة 60، أما الإيقاع الثاني فيمتد من الصفحة 61 إلى 119 ، أما الإيقاع الأخير فقد شغل باقي الرواية أي من 120 الى 201، ومن ثم يتبين أن المساحة الزمنية الأطول هي زمن الإبن مزيان، بعدد 81 صفحة، أما المساحة الأقل فهي الأولى الخاصة بالأب بوزيان، 47 صفحة أما الزوج فقد شغل 58صفحة.
هذا التباين على مستوى المساحة الزمنية المخصصة لكل مرحلة من مراحل اتلايتماس يقدم لنا تصورا حول مقصدية السارد الذي سعى إلى الارتكاز على المرحلة الأخيرة مرحلة زمن الابن، باعتباره الزمن الممتد في المستقبل، وانطلاقا من هذه المقاربة يمكن القول إن السارد قد اعتمد تقنية السرد السريع كآلية من آليات الإيقاع السردي في المقطع الأول، ليصل إلى السرد البطيء في الإيقاع الأخير.
3-2-إيقاع المكان: من هي اتلايتماس؟
المكان من الناحية الوجودية هو أقدم من الإنسان نفسه، وكل الدلائل الدينية والأبحاث المعرفية والأنتربولوجية تؤكد ذلك، لذلك فأهميته تكاد تفوق أهمية الشخصيات في بعض الأحيان، وعندما يشعر الإنسان بانتمائه للمكان فإنه يسعى جاهدا إلى الاستيطان والتملك فيه حد التقديس، وللمكان في هذه الرواية دور البطولة الموازية للزمن والشخصيات.
فيتبدى إيقاعه أولا من خلال العنوان: اتلايتماس: نعم من خلال هذا الاسم الأمازيغي الذي يحيل مباشرة إلى المكان حيث تنحدر منه الشخصية الأساس، وهي منطقة الريف، كما اتضح من خلال الإهداء “إلى امجاو: الأرض التي ضم ثراها مؤخرا رمس اتلايتماس”، إضافة إلى هذا التصريح المباشر يأتي بعده الإحالة بالضمير، “نزحوا إليها، رحلوا عنها، المغتربين” إنها قرية أمجاو التي تعتبر من الجماعات الفتية الطموحة المشكلة لقبيلة  آيت سعيد في إقليم الناظور في منطقة الريف.
فتفاصيل السرد الأثنتروبولوجي للكاتب محمد بودشيش يجعلنا نقف كثيرا عند خصوصية المكان الذي يتجسد شامخا بكل عنفوانه، الريف عموما الذي يزيد في تبئيره الكاتب ليصل إلى عمقه القائم في منطقة آيت سعيد بالأخص قبيلة امجاو التي احتضنت أحداث الرواية كما احتضنت مسارات سردية أخرى في النصوص القصصية القصيرة جدا السابقة وهي “أسماء تتشابه” 2013 وأزهار وأشواك” 2014، كما كانت محط اشتغال الكاتب في مجال التنقيب التراثي والحفر المعرفي على عادات وتقاليد المنطقة، إن اتلايتماس لا يمكن أن تخرج عن الريف، إنها المعادل الموضوعي للوطن، للتربة، للمكان الذي يستقبل أبناءه فيكبرون في مراتعه وبين أسواره وخلف جدرانه، يأكلون من خيره ويقضون طفولتهم بين أزهاره وأشواكه، لكنهم سرعان ما يصبحون أسماء تتشابه في الطموحات والمقاصد، فيعلنون التحليق خارج أمجاو، بعيدا عن اتلايتماس، التي تقف لتودعهم واحدا تلو الواحد، راجية عودتهم كما عاد حدو ومزيان، وراثية من خلف الوعد كما خلفه بوزيان الأب.
لذلك كان أول إيقاع الرواية هو تجسيدُ المكان يقول السارد “رنت اتلايتماس إلى الأطلال المندثرة التي كانت في يوم من الأيام مدينة أمجاو العامرة”.
كانت مدينة عامرة فأضحت أطلالا، أترى بفعل هجرات أبنائها عنها فقط، أم ثمة أسباب أخرى، حدد المكان في هذه الرواية شخوصها وأحداثها، قبيلة آيت سعيد تلك المدينة التي كشف المقطع الحواري بين مزيان وبوزيان من الناظور، وهو أحد مجارويه في الحافلة التي أقله من إسبانيا إلى المجهول يقول: “لقد قرأت عنها الشيء الكثير وكان ذلك داعيا لزيارتها.. وكانت فرصة لمعاينة بعض مواقعها الأثرية بأمجاو والتي كانت مواقع للمقاومة ونقط مراقبة إبان حرب الريف الأولى…
قال مزيان: أنا من أمجاو وكانت إحدى أهم مدن إقليم كرت قبل خمسة قرون خلت.
تابع بوزيان: لقد ذكر محمد حسن الوزان الفاسي هاته المدينة في كتابه وصف إفريقيا ومارمول كربخال أيضا ..”.
لقد حقق المكان في هذا المقطع السردي إيقاعا خاصا، فإلى جانب كونه البؤرة السردية المتحكمة في فعل الحكي، فقد خلق أيضا إيقاعا نفسيا تجلى في إيقاع الفخر بالانتساب إليه حين قال مزيان: أنا من أمجاو، كما حقق إيقاع الحسرة على وضعها الآني بعدما تنكر لها أهلها وتنكرت السلطات المختصة للجهود التي قامت بها المنطقة كلها في سبيل تحقيق الوحدة الوطنية أيام حرب الريف، وبالتالي لم يتحدد المكان هنا باعتباره مساعدا على الحكي فقط أو مؤثثا للحوار السردي، بل تجسد في كونه البنية الوجودية والسردية المتحكمة في خيوط السرد، كما كان فاعلا جوهريا في خلق أنسام وتآلف بين شخصية مزيان وبوزيان، بحكم إحساسهما بالانتماء إلى المكان الأول الريف.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال أمكنة أخرى ساهمت في بناء السرد وهي للجيري/الجزائر، وإسبانيا وفرنسا، ثم واد ملوية والبحر الأبيض المتوسط، حيث كانت اتلايتماس تعتقد أن الماء الوحيد الذي يمكن قطعه للوصول إلى حيث العمل والمال هو واد ملوية، فإذا بمزيان يكسر أفق انتظارها بماء آخر وهو البحر حين اعتزامه الهجرة إلى أوروبا، “تساءلت في قرارة نفسها قائلة “إن زوجي حدو حينما قرر الهجرة إلى الجزائر كان يقصد ضفة نهر ملوية، لكن مزيان ابني أي ضفة يقصد؟”، مع العلم أن والدها أيضا قطع البحر يوم التحاقه بجيش فرانكو الإسباني لكنها حينئذ لم تكن لتسأل، ربما لصغر سنها، وعدم إدراكها معنى الهجرة.

خاتمة
إن رواية اتلايتماس بما تحمل من أبعاد معرفية وأنتروبولوجية واجتماعية نستطيع من خلالها دراسة أبعاد متعلقة بالتاريخ المشترك بين المغرب والجزائر بالخصوص، وهذه التيمة حضرت بشكل مكثف لدى أدباء ومبدعي الشرق المغربي المتاخم للحدود، ومن بين ما يمكن استخلاصه من هذا العمل:
1- دراسة جزء من تاريخ الهجرة إلى الشرق بالتحديد الجزائر، التي كانت في تلك المرحلة بالنسبة لسكان المغرب الشرقي خصوصا الملاذ الآمن لتحقيق لقمة العيش التي شحت في هذه المناطق من المغرب في فترة الاستعمار والجفاف، وهو ما تبين بالخصوص في حديثنا عن مقاصد الهجرة، سواء تعلق الأمر بالهجرة العسكرية أم الهجرة الاجتماعية.
2-كما يمكن لنا من خلال هذه الرواية الأنتروبولوجية دراسة عادات الشعوب والتقاليد، سواء أكانت خاصة بالأعياد أو المناسبات والاحتفالات العائلية، وسواء ما تعلق باللباس أو بالأكل، أو بالأهازيج “الإزري” وهو ما يدخل أيضا في إطار المثاقفة والاحتكاك والتبادل الحضاري.
3-يمكن لهذا العمل أن يساهم أيضا في التعرف على سبل التواصل وآلياتها وطرقه بين العائلات، حيث كان الوسيط البشري يستقبل بحفاوة، لأنه قادم من عند الغالي الغائب، فلقاؤه ومعرفة الأخبار التي ينقلها للأسر هو استعداد نفسي كما لو أن الأسرة ستستقبل المغترب نفسه.

> بقلم: إلهام الصنابي

Related posts

Top