الفنان سعيد حاجي يعرض أعماله التشكيلية بالبيضاء

يحتضن رواق ميموارت بالدار البيضاء إلى غاية 22 دجنبر الجاري مجموعة من الأعمال الفنية الجديدة للمبدع التشكيلي سعيد حاجي تحت شعار ” فينيقيات منبعثة ” احتفاء بمسار أربعين سنة من العطاء الفني الملتزم . بسيط في علاقاته الاجتماعية، عميق حد الحب القاسي في علاقاته الإبداعية، سليل النضال العضوي، وخلاصة النضج الأدبي والجمالي معا، هو الفنان سعيد حجي) مواليد1961بالدار البيضاء( الذي انتصر في لوحاته التشكيلية لمديح الحرية، والحياة، والقيم الإنسانية النبيلة.
في حضرة لوحاته، تجد سعيد حجي لا يكف عن طرح علامات استفهام وتعجب كبرى حول معاني الوجود المعاصر، واندحار قيمه، ومظاهر “عبوديته الحديثة”.
اللوحة من منظوره الوجودي مسكن الكائن الذي ينسج من خلاله وعبره مدارج ألفته وغربته في الآن ذاته. إنه المسكن الرمزي الذي عرف كيف “يهندس” مشاهده الكبرى والصغرى بحس جمالي آسر (همه الأول والأخير هو الحقيقة). تراه يخوض في قضايا كبرى تهم الطابوهات القائمة، كما تراه يرعى في أجوائه التعبيرية الصارخة أحلامنا البسيطة بشكل يذكرنا، على التو، بحراس الإنسانية الذين يناضلون من أجل ترسيخ ثقافة الفرح، وبلاغة الحياة بكل معانيها وإشراقاتها.
ما يرسمه سعيد حجي هو نسغ الأمل الساكن في دواخلنا مدافعا، بشراسة أليفة، عن كياناتنا الوجودية في تداعياتها الحقيقية والمجازية معا.
المتأمل في عوالم سعيد حجي، ينتابه إحساس غريب إزاء تلك الأشكال، والانسيابات اللونية المتدفقة التي تروض عيوننا على الجمال البصري، وعلى قيم التحدي والأمل. كما أنها تحتفل بمعاني الأرض، والكرامة، والحرية. هكذا، تقوم اللوحات على فلسفة الاحتفال بالذاكرة ضد الغياب والنسيان في آن معا. الأمر شبيه بوشم غائر في منصة المصالحة والإنصاف: وشم لا يمكن تجريده من معانيه الأصلية. تصبح اللوحة، إذن، محاولة ذاتية لإعادة كتابة التاريخ الخاص في علاقته اللزومية مع التاريخ العام. الأمر، في هذا السياق، معادل موضوعي لدور الذاكرة الشعبية في تخليد الأحداث، والوقائع، والطرائف بعيدا عن كل أشكال البتر والمحو والطمس !
لقد أصر سعيد حجي على معالجة قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية في ضوء مقاربة تشكيلية تتسم بالتكثيف اللوني، والتشذير الشكلي، والترميز التعبيري خارج كل تقريرية تسجيلية، وتناظرات أيقونية.
إلى جانب روايته “الفينق”، و ” ارواح بوبزكارن ” وديوانه الشعري “كاميكاز”، يكتب سعيد حجي تجربة متميزة على مستوى البناء البصري، واللغة الإيحائية. فرهانه الأول والأخير هو تقديم عتبات موازية عبر تقنيات تشكيلية مختلفة تزاوج بين التشخيص التعبيري والتجريد الرمزي.
في إطار هذا الرهان الجمالي، يحافظ الفنان على زخم المتن الوجودي، وهامش الشكل الفني، ممارسا لعبة الواقع والمرايا المتعددة، ومخلصا لمنطقية المعنى وعبثيته في الآن ذاته.
لا يرسم سعيد حجي “الغيطو” الضيق للكائنات والأشياء. إنه يحرص على التعبير عن المرئي واللامرئي، وكأنه يداعب لغة جديدة بأشكال سلسة ومركبة، وبقدرات بنائية موحية. تواتر الإيحاءات، وتوالي الأجواء التي ترحل بنا من عالم الواقع إلى عالم الفانتازيا، أشكال شديدة الحساسية وعنيفة التخييل : كلها عناصر محكمة، ودالة، وضرورية للولوج إلى عالمه القصصي، أقصد عالمه التشكيلي. لا غرابة أن نخوض في هذا المعراج البصري رحلة روحية للسمو والارتقاء وكأننا نمارس رقصة الزمن (أتذكر كتاب “إنشاء الدوائر” لمحيي الدين بن عربي). هذا هو المسار الحتمي لتجربة سعيد حجي، فهو بمثابة سيرة ذاتية من جهة الواقع والمتخيل معا صاغها الفنان في شكل مذكرات باللون والشكل : مذكرات بصرية تبدو شبيهة بالأحلام المفقودة علها تحقق ميثاق المصالحة مع الذات بكل جراحاتها التاريخية.
تراه يتحول، مجازيا، بين اللوحات باحثا عن لحظات بوح “أكثر واقعية” تشي بعبثية ساخرة وكأنها مرآة مغايرة تعكس حقائقنا المرة حد الغثيان. إنها عبارة عن كتابة سردية مغرمة بالبوح والتذكر. كتابة بلا ادعاء أو غرور مرضيين، حيث الالتزام هو المدرسة الأخلاقية والوجودية معا التي تربى في أحضانها إنسانا وفنانا، ونسج فيها لوحات نحياها، وعايش عبرها حياة كتبها. هكذا، يمارس سعيد حجي حياة مزدوجة : حياة في الوجود، وحياة في الإبداع بتفاصيله اللغوية وغير اللغوية، وبأصواته المتعددة وأجوائه المشهدية التي تمثل شاهدا بصريا على عمق رؤية الفنان العضوي لوعي الإنسان الحديث ومصيره.
ما يقدمه إذن، سعيد حجي هو منجزه الحياتي المفعم بآماله العريضة التي ظلت تلازم مشروعه الجمالي قيد الإنشاء على عتبات عزلة الممارسة التشكيلية، وخلوات الصداقات التاريخية العميقة بالحب والامتنان.
إن الرسم بالنسبة للفنان سعيد حجي كالفن تماما بالنسبة لصاحب رواية “الغريب” ألبير كامو الذي صرح بمناسبة استلامه جائزة نوبل عام 1957 : “ليس الفن ابتهاجا شخصيا وتسلية فردية، إنه وسيلة لتحريك مشاعر أكبر عدد ممكن من البشر عبر تقديم صورة متميزة للأفراح والأتراح المشتركة. وعليه، فإنه يجبر الفنان على ألا ينفصل عن ذاته. إنه يخضعه للحقيقة الأكثر بساطة وشمولية. ومن اختار مصيره كفنان، لأنه يشعر أنه مختلف سوف يدرك سريعا أنه لن يعزز تفرده إلا من خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين” (ترجمة : عاصم عبد ربه).
انتصر، إذن، سعيد حجي لهذه المسافة القائمة بين الجمال الفني والفاعل الجماعي، متأثرا بكل الذين يساهمون في صناعة التاريخ، وهندسة ثقافاته الإنسانية. لقد تعلم منهم كيف ينصت للصمت وللهوامش وسط نعيم الاستقلالية الذاتية وفي أحضان المنافي الاختيارية. أليست لوحاته التشكيلية بيانات بصرية لخدمة الحقيقة والحرية معا ؟
ليس فعل الكتابة التشكيلية لدى سعيد حجي مجرد كتابة شكلانية. إنها دعوة صريحة لمقاومة النسيان والمحو في عالم يهدده الدمار الرمزي. إنها، أيضا، رفض صريح لكل نزعات العبث والعدمية بلا أقنعة ومساومات. ألم يناضل هذا الفنان في حياته كما في إبداعه من أجل مناهضة غرائز الحروب، وسيناريوهات الإقصاء، والتغييب، والاستلاب(رئيس مؤسس لجمعية منتدى الا بداع و رئيس مؤسس لجمعية سيدي كاوكي ).
كل شيء في لوحاته يستعيد مديح الكرامة، وسلاح الحرية (لا سلاح العبودية). لا غرابة في ذلك، ما دام التشكيل منذورا لإعادة بناء العالم، أقصد عالم القيم والمعاني التي يتهددها الاندحار والمسخ.
هذا هو نبل الكتابة التشكيلية كما أدركتها في تضاعيف أعمال الفنان سعيد حجي من خلال تقاطعاتها مع أعمال رفاقه في النضال والبوح القاسي. أليس الفنان بتعبير ألبير كامو، كاتبا رهيفا، وعنيدا، ومولعا بالسلام والعدالة يبني عمله الفني بلا خجل أو غطرسة على مرأى من الجميع. وهو موزع بين الجمال والألم، حيث يستخرج من كيانه المزدوج الإبداعات التي يحاول بلا هوادة أن يجعل منها قدوة لحركة التاريخ ؟
لقد أدرك سعيد حجي عبر مساره الإبداعي بأن الحقيقة غامضة ومراوغة يجب السعي وراءها دائما، كما أن الحرية صعبة المعشر وقاسية من منظور الوجوديين. هكذا، سيشق طريقه بإصرار وروية، لتمثل هاتين الحقيقتين، بدون أن يتجاسر على ادعاء الفضيلة والمثل العليا.
تكفي الذكرى لتقديم مخاض الوجود داخل اللوحة الفنية : ذكرى الحضور والغياب معا. ذكرى التزام وتفاؤل بلا رقابة أو مصادرة. ذكرى عالم أصبحت فيه الأشياء سيدة الكائنات، وتبدل فيه مفهوم “في ما وراء” ب “في ما بعد”، ولا يعتد بالقيم فيه إلا حين تنتصر.
“لا إبداع بدون استقلال ذهني” : هذا هو الشعار المبدئي الذي ترفعه تجربة سعيد حجي الذي حقق مصالحة بين ذاته وعمله الفني، موفقا بين النضال والجمالية، والإبداع والالتزام. إنه فنان عنيد، ومتيقظ، وحريص على تثمين المواقف في الحياة والإبداع معا.
إنه يفكر وفقا للأفكار، وليس وفقا للأشكال وللكلمات.

> عبد الله الشيخ

Related posts

Top