لمن تدق الأجراس؟

  يغلب ظني، أن الوعي التراجيدي ظل يسامر القصيدة العربية المعاصرة منذ ظهورها على اثر النكبة والاحتلال الفعلي لفلسطين إلى اليوم. وبالتالي فالشاعر الحديث يكتب قصيدة شقية بشرارات ملونة. في هذه الحالة، لايمكن أن يكون النص الشعري الحديث والمعاصر إلا مركبا؛ باعتباره يسعى إلى امتلاك حس دقيق بمرحلة شديدة التحولات، بما فيها التغيرات المعرفية والإيديولوجية.

   و أنا أتابع مجزرة غزة، تملكني شعور بالغربة والعجز، لم أجد لذلك امتدادا إلا في ذاك التراكم الشعري العربي الحديث المسكون بالغربة وتجربة الموت إلى أبعد مداها، مع تجارب شعرية تعبر وتترك أثرا للمشي. هي غربة وليدة واقع مثقل بالمهانة وصنوف التخلف، فتعددت أشكال الغربة التي تعزف على وتر الذات في تجربة حياة ووجود، حتى يبدو الشاعر العربي  ـ غير المحتمي أو المقولب ـ مطاردا، فتكون القصيدة المسافة ولحن الفقد، يتلذذ به في اتجاه المستقبل الذي يأتي ولا يأتي. وإن تعددت أسباب هذه الغربة كما يذهب الدارسون بين التفاعل مع تجارب إبداعية هنا وهناك أو معرفية…لكن كما يؤكد أحمد المجاطي في كتابه “ظاهرة الشعر الحديث”: 

” نرفض أن تكون تلك هي المصادر الوحيدة لنغمة الكآبة والضياع والتمزق التي استفاضت في الشعر الحديث، وأغلب الظن أن النغمة تجد جذورها في تربة الواقع العربي “. 

وإن تعددت الغربة كما يذهب نفس الكاتب: “الغربة في الكون، في المدينة، في الحب، في الكلمة، فإنها أحيانا تندغم في لحمة مصير أو سؤال قلق،  كما نجد هنا عند يوسف الخال في قصيدة “الدارة السوداء”:

“دارتي السوداء ملأى بعظامهم

عافها نور النهار

من يواري التراب؟

علها تبعث يوما

تدفع الصخرة عنها”

     القصيدة في مجملها مماثلة لواقع مركب،  مثقل بالهزائم والانكسارات. فتكون في المقابل النغمات الشعرية وليدة نفسيات مركبة. أريد أن أطرح هنا أن هذه الزلازل التاريخية تجعل النص وصاحبه في مفترق، قد يحدث ذلك الكثير من التردد المركب في الطريقة والرؤيا للذات والعالم. وهو ما يتخذ شكلين: إما التمجيد والمدح المسطح  الذي قد يذهب بشعرية الأدب ويسقطه في أتون خطاب آخر مليء بإفحام الخلف وشرطية التأويل. أو التحصن في الشعرية الموغلة في داخل قد يحدث الشك الذي بإمكانه أن يعصف بالعلاقة بين الأدب وواقعه.

 يبدو لي أن المبدع إنسان أولا،  يتفاعل في علاقته بالغير مع ما يحدث. وإذا كان هذا الذي يحدث أقوى من وقع الأساطير وأنهار خصبها، أعني سفكا وتدميرا. لابد أن يحدث ذلك حربا أخرى مكانها الذات التي تسند جدارها الأدبي غير الآمن ، بل المعمق للسؤال . ولا يمكن أن يكون العمق إلا غربة تسوق الأحداث المؤلمة ضمن نسج إنساني يمنح الأبعاد ويعمق الألم؛ ليغدو مطوقا للنفس والعقل الإنساني برمزية لها ما يكفي لتثوير الحقيقة والمألوف المعطوب الإدراك والرؤية. أحيانا حين يشتد القتل والعماء، أجزئ جسمي في جسوم ومقاطع حارقة. وقد نجد عزاءنا في تلذذ عميق بكلام مقتر وعاصف بكامل الهدوء، منه قول الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في قصيدته: “فارس النحاس”:

لمن تغني هذه الجنادب؟

لمن تضيء هذه الكواكب؟

لمن تدق هذه الأجراس؟

> بقلم: عبد الغني فوزي         

الوسوم , ,

Related posts

Top