المساواة في الإرث…بين مد وجزر

أعاد إعلان الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، بحر الأسبوع ما قبل الماضي، عن اتخاذ قرار بسن قانون يضمن المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، الجدل مجددا حول موضوع حساس ليس فقط داخل المجتمع التونسي بل داخل مجمل بلدان شمال إفريقيا أساسا، من ضمنها المغرب، وهي بلدان بحكم الانتماء الجغرافي والعقائدي تتقاسم مسارات التأثير والتأثر، حيث تواترت على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات توزعت بين معارضي القرار الذين اعتبروه خروجا عن ما تتضمنه الشريعة من أحكام، ومناصري المبادرة الذين اعتبروها تأتي لتواكب التحولات والتطورات التي يشهدها المجتمع والتي تمتد لوضعية المرأة الاقتصادية والاجتماعية.
وحسب ما حملته التجربة التونسية في هذا الصدد، فإنه تم اختيار القبض على العصا من الوسط، حيث أن مشروع قانون الذي سيتم تقديمه أمام البرلمان للحسم فيه، سيترك المجال مفتوحاً أمام اختيار تطبيقه أو عدم تطبيقه، ” فإذا كان المورّث يريد تطبيق القوانين الشرعية فله ذلك، وإذا أراد تطبيق القانون فله ذلك أيضاً”، حسب قول الرئيس التونسي.
وما يثير في التجربة التونسية، أن قيادات من داخل صف الأحزاب ذات التوجه الإسلامي، بمجرد الإعلان عن القرار السالف الذكر القاضي بطرح مشروع قانون المساواة في الإرث، ارتفع صوتها بالدعوة إلى الحوار من أجل حلحلة الخلاف حول هذا القانون، حيث خرج راشد الغنوشي رئيس كبرى الأحزاب الإسلامية في تونس، ليحسم على ما يبدو وبشكل مسبق في الأمر، حينما أدان مختلف حملات التشويه والتحريض اتجاه رئيس الدولة وإطاراتها والشخصيات السياسية والأحزاب، وهي الحملة التي انطلقت عقب الإعلان عن مشروع القانون.

دعوات طرح الموضوع في المغرب..بين المد والجزر

في المغرب يبدو أن اتخاذ قرار بإرساء المساواة في الإرث بين المرأة والرجل يتطلب إرادة سياسية وعلى أعلى مستوى، خاصة وأن مؤسسة العلماء ترفض حتى تلك الدعوات التي ترددت بشكل قوي من قبل هيئات المجتمع المدني، وأساسا الحركة النسائية والحقوقية، وذلك على مدى طيلة الثلاث سنوات الماضية من أجل فتح نقاش مجتمعي لإصلاح المنظومة التشريعية الخاصة بالمواريث.
وآخر ملمح لهذا الرفض والذي بدا صريحا نوعا ما، يتمثل في إصدار الرابطة المحمدية للعلماء كتابا قدمت فيه علم المواريث والفرائض الأصيل، كما هو مبين في الشرع، خاصة وأن التقديم الذي خطه، أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة لهذا المؤلف، حرص فيه التأكيد على ما تضمنه القرآن في هذا الباب درءا للفتن، حسب العبارة التي تضمنها النص الذي استشهد به، حيث أورد، عبادي، أن ” الله تولى سبحانه وتعالى بيان فرائضه في محكم تنزيله، فبين ما لكل وارث من الميراث، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أهمية تعلم هذا العلم وتعليمه”.
واعتبر متتبعون أن تنزيل هذا المؤلف، يندرج في إطار محاولة الرابطة قطع الطريق على دعوات المطالبة بفتح نقاش حول موضوع ظل ضمن المواضيع التي لا يمكن مقاربتها، بدعوى أن الشرع فصل فيها ولا يمكن تقديم أي اجتهاد بشأنها، على خلاف الدعوات التي تتعالى من الجانب الآخر وتطالب بفتح النقاش واعتباره كغيره من الأسئلة التي باتت مطروحة خاصة وأنه له خيوط التماس بين الشأن الديني وبين التفاصيل اليومية.
واعتبر المتتبعون على أن الرابطة أعلنت رفضها لفتح النقاش حول موضوع الإرث ليس فقط عبر هذا الكتاب، بل أيضا من خلال القرار الذي اتخذته الدكتورة أسماء لمرابط، باستقالتها من رئاسة المركز التابع للرابطة المكلف بالدراسات والأبحاث في القضايا النسائية في الإسلام، والذي جاء حينها على خلفية إطلاقها لدعوة بضرورة إطلاق نداء لتدخل ملكي من أجل إصلاح منظومة المواريث.
والرابطة تتجند، في هذا المنحى الرافض، حسب ما يذكره متتبعون، حتى عبر أثير بعض المحطات الإذاعية، إذ في إطار بعض البرامج التي تقدم أجوبة لمواطنين عن قضايا تخصهم من ضمنها قضية الإرث، مرار تم سماع أجوبة تورط السائل أكثر مما تجد له الحل، إذ مرات طرح بعض الآباء سؤالا يثير فيه حال تواجد الفتيات دون معصب، باحثا عن مخرج ملائم ليترك لبناته مثلا بيت العائلة إرثا خالصا لهن، وتجنيبهن التشرد لا قدر الله في حال وفاته، فيجيب الفقيه بصيغة استفهامية إنكارية هل أنت تريد جوابا يتماشى مع الشرع أو متحايلا على الشرع، فما يكون من صاحب السؤال إلا أن يخضع لدهاء المجيب ويقول “طبعا مع الشرع” ليسرد في ذلك الفقيه ما تضمنه مدونة الأسرة من فصول تهم هذه الحالة”.
وبشأن الدعوات التي أطلقتها الحركة النسائية في المغرب، والتي جاءت على لسان مسؤولات الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب، علما أن هذه الجمعية أطلقت منذ قبل عشر سنوت الاشتغال على منظومة المواريث التي تعتبر، حسب الهيئة السالف ذكرها، منظومة، تواصل تكريس التمييز بين الرجل والمرأة على مستوى توزيع الميراث، وهي دعوت تمحورت حول إقرار إصلاح لهذه المنظومة يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات وتطور الواقع المجتمعي، حيث خرجت النساء للعمل خارج البيت وباتت مساهمتهن في تكوين ثروة الأسرة جليا، ولم يعد من المقبول استمرار التمييز بينها وبين الرجل في توزيع الميراث”.
وأنجزت في هذا الصدد دراسة، خلصت فيها إلى أن الموضوع في حاجة لنقاش مجتمعي هادئ، فالأمر يتعلق “بحاجة مجتمعية وحل وضعيات واقعية، حيث أن المغربيات قد برهن على قدراتهن في كل المجالات، وتقاسمن مسؤولية الأسرة بشكل مشترك مع الرجال، ناهيك عن نسبة الخمس من الأسر التي تتكفل بها حصريا النساء، وعن مساهمتهن في تنمية ثروة الأسرة دون أدنى الضمانات لحقوقهن في حالة وفاة الزوج أو الأب”.
وتشير الجمعية أنه النظر لرمزية الموضوع في علاقته بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية وربطه من طرف البعض بحمولة دينية، وبقدر ما يواجه به بسبب ذلك من مقاومات، فإن الجمعية استغرقت نحو عشر سنوات في الاشتغال على المنظومة التي تواصل تكريس التمييز بين الرجل والمرأة على مستوى توزيع الميراث، وأكدت في هذا الصدد على ” أن المساواة في الحقوق هي الركيزة الأساسية للمواطنة التي لا يمكنها أن تتحقق في ظل وجود تمييز يطال النساء بتكريس من القوانين والسياسات والممارسات”.
هذا وتقر الجمعية بالتعقيد الشديد الذي تتصف به منظومة المواريث والتي استلهم المشرع المغربي مقتضياتها من عدة مصادر تشريعية، ورفض البعض الخوض فيها بإعمال الاجتهاد لكونه يتعلق بتوزيع الأصول العينية والمادية،
ويشار أن الدراسة التي أعدتها الجمعية خلصت في استجواب أجري بشأن موضوع المساواة في الإرث، إلى أن نسبة تتجاوز 31 في المائة الذين تم استجوابهم بخصوص مسألة التوزيع العادل للتركة، لم يبدوا أي رفض اتجاه ذلك، حيث أن نسبة مهمة من الذكور مع فكرة المساواة، في حين وبشكل مفاجئ عبرت نسبة أكبر من النساء ضد فكرة التوزيع العادل.

اجتهادات من داخل النص ترسي
للمساواة في الإرث

وتعتبر فريدة بناني، الأستاذة الجامعية والحقوقية، والتي ساهمت في الدراسة التي أصدرتها الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب، وذلك عبر تقيم أربع قراءات أو ما سمته اجتهادات فقهية، تتمحور حول النصوص التي تتناول موضوع الإرث، إلى أن المرأة لاترث دائما نصف ما يرث الرجل، ذلك أن قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” ليست قاعدة مطلقة في تقسيم الإرث بين الرجل والنساء، وبأن الأنثى في تنظيم الإرث لا ترث فقط نصف ما يرثه الذكر، بل قد ترث مثله وأحيانا أكثر منه وأحيانا قد تحجبه عن الإرث، ذلك أن المعيار في المواريث ليس هو الأنوثة أو الذكورة ولكن درجة القرابة بالهالك، علاقة الزوجية وتوزيع الأدوار والمسؤوليات داخل التنظيم الإسلامي للمجتمع وللأسرة .
وتؤكد بناني في هذا الصدد، على أن هذه القراءة يمكن الارتكاز عليها من أجل توعية الناس بما هو قائم وموجود وكطبق وغير معروف، حتى يتوقف ترديد قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين”.
أما القراءة الثانية أو الاجتهاد الثاني، وهو القراءة التدرجية المقاصدية للأحكام، وتشير بناني إلى أنها تعد من أغلب الاجتهادات التي يتم تجاهلها، لأنها تدعو إلى المساواة، فالإسلام عندما جاء كانت غايته هي وضع مبادئ للمجتمع ألأمثل لا ظلم فيه ولاحيف بين أفراده وبين رجاله ونسائه، وتحقيق مقاصده كلها، ولذلك فإنه لتحقيق تلك الغاية، اعترف للمرأة بحقها في الإرث بعد كانت لاترث بل كانت تورث، بل واعترف لها بنفس نصيب الذكر، وتضيف، بما أن الإسلام دين الواقعية الإيجابية، وبما أن أفراد المجتمع الذكوري ألأبوي رفضوا تلك المساواة فقد راعى الإسلام الواقع القائم فجعل حظ الذكر ضعف حظ الأنثى.
وتلفت الباحثة، على أن المقصد الكلي للإسلام لم يتحقق بأكمله، وأن لغاية توفر ظروفه، وتوفر سياق اجتماعي ملائم ومختلف عن ذاك الذي نزلت فيه تلك الأحكام عن طريق التدرج، وتبرز أن الفقهاء عللوا نقص ميراث المرأة عن الرجل بكفالته لها أو بأنه هو المكلف بالإنفاق عليها، ولكن بما أن هذا التعليل تغير اليوم في الأسرة الواقعية وبما أن الإسلام دين تدرجي متطور، فإنه في جوهره لا يمانع في تقرير المساواة بين الجنسين متى انتهت أسبابها بتطور الزمن مادام يتغيى في جوهره العدالة التامة وروح الحق الأعلى.
ومن جانبه ينتصر د.الحسن رحو، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس أكدال، للمساواة في الإرث على أساس أن الأصل في النص الإسلامي في مجال الإرث يتراوح بين مقتضيين كبيرين هما الوصايا والثاني قواعد الإرث، والأصل أن الوصية هي القاعدة العامة يصار في غياب اللجوء إليها إلى تطبيق قواعد الإرث إما في كامل المال أو فيما زاد عن الوصية إن وجدت.
ولفت الدكتور رحو، إلى أن التعقيدات التي تحيد بموضوع إصلاح منظومة المواريث، خاصة وانه تراكمت حوله الأحكام المسبقة والمنطلقات الخاطئة حتى صاررت كالجبال، منبها إلى أن العديد من القضايا يجب مناقشتها بمنظور تاريخي، مبرزا أن مجموعة مما يوصف بأنها أحكام وضعت من طرف فقهاء في فترة تاريخية معينة، كانت تتصف بالفراغ المؤسساتي على مستوى الدولة، حيث خلال عصر العباسي كان الحاكم مشغولا بالكرسي وترك امر الفتاوي للفقهاء، وهو ما جعل العديد من الأحكام تصدر بصبغة ذكورية حسب الفئة التي باشرت تأويل النص القرآني الذي هم نص هداية.
وأضاف أن الإسلام عمره نحو 3800 سنة أي انطلق مع النبي إبراهيم عليه السلام، وتجدد مع الرسالة المحمدية، ليقطع مع الكهنوت وليقيم أكبر ثورة في التاريخ التي انتصرت للمستضعفين، لكن ما جاء بعد عهد الرسول والصحابة، كانت أحكام، خاصة الإرث حيث أن ثلثين منها مصدرها الفقهاء.
ودعا إلى الاجتهاد في الموضوع، خاصة وأن القرآن يوصي بذلك، حيث أن 300 آية كلها تحث على إعمال العقل، وسد الطريق على الفقهاء الذين يتاجرون بالدين عبر إصدار الفتاوي، مشددا على أن أحكام الإرث ليست دينية بل هي مدنية، والقرآن نفسه يتضمن الدليل على ذلك.

< فنن العفاني

Related posts

Top