فيلم إنساني يرشح بألام الاختلاف …

السينما فكرة و الفكرة تأبى ان تموت، السينما عنوان للحقيقة واداة للكشف عن كل الخبايا وأسرار وحكايا مجتمع ما، الكاميرا مطيته للبحث عن الحقيقة و بالسينما يقدم للجمهور في كل العالم حقائق تبدو صادمة احيانا و لكنها الحقيقة الموجعة و المؤلمة حقيقة الانسان في الدول العربية حقيقة الحريات الفردية والخاصة، حقيقة الاقليات المضطهدة والظلم الاجتماعي المسلط ضد المرأة في المغرب جميعها قدمت في فيلم هو لحظة سينمائية فارقة.
حقائق عديدة جمعها نبيل عيوش في فيلم واحد، مشاهد عديدة ناقدة نقلتها الكاميرا في فيلمه «الغزية».

الاقليات وسؤال الهوية المنسية؟

جبال شاهقة، اللون البني يحيط بالكاميرا، من اعلى جبال الاطلس تنطلق الصورة العامة للفيلم، صوت لرجل اربعيني يتحدّث عن سحر الجبل عن حجارته الصماء الناطقة بتراتيل الحياة وكيف تصبح قسوة الجبل اغنية جميلة يرددها السكان.
تقترب الكاميرا تدريجيا لتصبح الصورة اوضح فالمكان قرية في جبال الاطلس المغربية والتاريخ ثمانينات القرن الماضي، قرية امازيغية لازالت تحافظ على لهجتها المحلية، في تلك القرية يحدثنا الاستاذ عبد الله عن سحر الجبل وأقاصيصه، الاستاذ عبد الله يؤمن ان التعليم رسالة هو ابن مدينة الدار البيضاء ولأنه يؤمن بقدسية التعليم فهو يدرس صغار إحدى القرى الجبلية باللهجة المحلية لأنهم لا يتحدثون العربية، الاستاذ عبد الله يعامل كقديس في المكان لانه اقترب من الأطفال وشاركهم محليتهم، يصاحبهم في جولاتهم ويقدم دروس العلوم في الطبيعة باللهجة الامازيغية ولكن طريقته الاستثنائية تقلق الدولة والوزارة أمام سياسة التعريب، فيجبر الاستاذ عبد الله على تدريس الاطفال بلغة لا يفهمونها حتى يصبحوا «كالببغاء يحاولون ترديد كلمات دون فهم» ، سياسة التعريب اقلقت الاستاذ فترك الجبل والقرية النائية وعاد الى الدار البيضاء إلى المدينة علّه ينسى جرح اطفال الجبل وأحلامهم التي اجهضت بسبب سياسة التعريب ويكون اول الاسئلة عن الاقليات الامازيغية في جبال الاطلس.
تترك الكاميرا الجبل وتترك الاستاذ عبد الله في تلك الحافلة الزرقاء التي ستجتاز الجبل وتعود الى المدينة، تلك الطريق الطويلة صنع منها عيوش حكاية وفيلما إنسانيا ويتحوّل الزمان الى الحاضر ومن الاقليات اللغوية الى الاقليات العرقية، تحديدا اليهود في مشهد صراع طفلين يتخاصمان ويقولان ابشع النعوت ولمّا سال الاستاذ عبد الله أحدهما عن سبب العراك أجابه «اليهودي سرق دراهمي» ثم رحلة عبر الزمن الى الحاضر لتجدك امام شيخ انهكته السنون، ينظر الى صورة امامه ويبكي و حين يسأله ابنه يخبره ان أحد أصدقائه المقربين توفي في طنجة ولقلة الحضور لم يدفن بعد، حينها يطرح ابنه السؤال «الم يعد في طنجة يهود»، فالمخرج هنا يحمل الجمهور الى الاقليات الدينية وتحديدا اليهود الذين كانوا يمثلون بين 10 و15 ٪ في المغرب.
لينحصروا في احصائيات السنوات الاخيرة الى 0.2 ٪ و بعد أن كانوا أكثر من 200 ألف ساكن يهودي مغربي اليوم لم يتجاوزوا 70 ألف ساكن.
لازالت رحلة كاميرا نبيل عيوش متواصلة لازالت تغوص في خبايا الذات البشرية وتضع الاصبع على الاختلاف ونكران المختلف من قبل المجتمع، مع الاقليات تحضر الحريات الفردية اذ تسلط الكاميرا الضوء على حكيم، الشاب المغربي المنتمي الى طبقة اجتماعية بسيطة ومفقرة يعمل في ورشة للنجارة ولكنه عاشق للموسيقى قيثارته ترافقه بعد نهاية العمل يغني ويحلم بالنجاح يعشق أغاني المغني البريطاني الراحل فريدي ميركوري ولكنه يقابل بالصدّ والرفض من قبل المقربين فبسبب لباسه المختلف وقرط في أذنه ينعته الشارع بالشذوذ كذلك والده «الحاج» يرفض فكرة أن يكون ابنه «فنان» فكيف بعاشق الله أن يقبل أن يكون ابنه عاشقا للغواية، حكيم نموذج عن الشاب المحب للموسيقى الحالم بالتميز و المنهك نفسيا بسبب رأي المجموعة فقط لأنه مختلف.
المرأة ومحاولة الاعتداء على حقوقها

جميلة كأغنية امازيغية تتحدث عن الحب، لابتسامتها سحر وغموض هي المرأة الكائن الجميل منبع الرقة والحياة، المرأة في فيلم نبيل عيوش تصارع لنيل حقوقها و التمتع بحرياتها الفردية، تعشق ذاتها وأنوثتها، المرأة في الفيلم عاشقة تغادر قريتها الهادئة بحثا عن حبيبها تترك الجبل و هواءه المنعش تترك لهجتها المحلية و تغادر الى الدار البيضاء علّها تجد حبيب قلبها.
المرأة هي تلك الحالمة بكل حقوقها جسدت في شخصية امرأة متزوجة جميلة يرفض زوجها نزولها الى العمل و يرى المجتمع لباسها القصير عنوانا للعورة «استرنا يا الله»، امرأة تجهض ابنتها فقط «لا اريد انجاب طفلة في هذا المجتمع»، امرأة تحلم بالنزول الى البحر دون ملابس دون ان تتعرض الى التحرّش من قبل الاطفال قبل الكبار، امرأة تريد ان تكون كيانا مستقلاّ تدافع عن حقها في الحياة.
حق يحاول المحتجون طمسه باسم الشريعة من خلال صور لمسيرات تقودها نسوة لرفض قرار المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، حق يطمسه المجتمع لأنه يريد ان يفرض عليها لباسا معينا، حق يشتته الزوج لأنه يرغب أن تظل زوجته بالبيت تطبخ وتعتني بالبيت حد تدخّله في شأنها الخاص ورفضه للتدخين والرقص لأنه «عيب».
حقوق المرأة تتكالب عليها العديد من الاطراف لطمسها و تهميشها لتظل مفعولا به لا فاعلا ولكن الكاميرا ترفض ان تكون المرأة تابعا فتحمل حقيبتها وترحل خارج المغرب وفي ذلك طرح لسؤال عن الهجرة والهروب من اوطاننا بحثا عن حقوقنا.
«الغزية» فيلم انساني بامتياز، فيلم يقدم للمتفرج باقة من المشاكل التي يعيشها الانسان في المغرب بصورة سينمائية ممتعة، فيلم يقدمه مخرج قويّ متمسك بحقه بالنجاح رغم كل شيء يواصل النبش في الهامش المنسي ويحفر في الذاكرة ليقدم افلاما تدافع عن الانسان وترسخ في الذاكرة ابد الدهر.

Related posts

Top