“طنجة المشهدية” تناقش الأشكال المسرحية المهاجرة في دورتها 13

نظم المركز الدولي لدراسات الفرجة فعاليات الدورة الثالثة عشر من مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية خلال الفترة الممتدة ما بين 24 و28 نونبر 2017، متضمنة – على غرار الدورات السالفة – جانبا علميا تشمله الجلسات النقدية لندوة المهرجان الدولية، وجانبا فرجويا يتوزع بين عروض مسرحية، فرجات، أفلام وثائقية، وورشات تكوينية، ومعرض للصور الفوتوغرافية توثق لذاكرة المسرح والفرجة في المغرب.. وتميزت الدورة بالتفاتة تكريمية رائعة احتفاء بالباحثة الألمانية كريستل فايلر والدراماتورج المغربي محمد بهجاجي.
وتمحور الموضوع المركزي لهذه الدورة، التي أسندت إدارتها هذه السنة للكاتب المسرحي محمد قاوتي، حول تيمة «الأشكال المسرحية المهاجرة»، بغاية «تسليط مزيد من الضوء على فضاءات الاحتكاك بين ثقافات فرجوية مختلفة، وما يترتب عن تفاعلاتها من «تلق منتج» بوصفه الوجه الآخر للأشكال المسرحية المهاجرة»..
ويسعى المهرجان، عموما، إلى استكشاف خطابات ومواقف جديدة، بهدف تكوين خطاب ومعجم مغايرين.. وخلال الأيام الخمسة للمهرجان، اشتعلت دينامية حقيقية من النقاشات والتأملات النظرية، بمشاركة باحثين وخبراء من مختلف أنحاء العالم قدموا لطنجة من أجل الإسهام في التطارح والتناظر وعرض أفكارهم وتأملاتهم حول مجموعة من الإشكاليات المختلفة التي تتعلق بالمحاور المقترحة من قبل المنظمين والتي تندرج ضمن الموضوعة العامة للدورة، ومن هذه المحاور:
> ما العمل لأجل بناء ثقافة فرجوية كونية حقة تتجاوز قيود الإمبريالية الكونية؟
> انتقال تقنيات الجسد (في المسرح والرقص وباقي فنون الأداء) عبر البلدان والتقاليد الفرجوية/
> المسرح والهجرة
> التعاون الدولي ومبدأ التبادلية
> فضاءات الاحتكاك الثقافي: الأدائية والترجمة
> نقد الهجنة: الآداء مقابل السلطة
> الممارسة المسرحية في «ما بعد المستعمرة»: التلقي المنتج والتفاوض بخصوص المعنى/ السلطة.
من جهة أخرى، فإن المهرجان قد برمج ضمن فقراته أحد عشر عرضا فرجويا بهدف تعميق النقاش الفكري من خلال مسرحة أشكال مسرحية مهاجرة متعددة من هنا وهناك… وهو ما من شأنه تثمين فلسفة المهرجان القائمة على الحوار الدائم بين المسرح وباقي فنون المدينة من جهة، وبين الإبداع والنقد من جهة ثانية، وهو حوار ذو حدين: يقوده الفنان، ويؤطره الباحث.
هذا بالإضافة إلى أن المهرجان شهد محاضرات افتتاحية ولقاءات مفتوحة مع خبراء دوليين من مختلف أنحاء العالم، وأفلام وثائقية تسشكل موضوع النقاش، إلى جانب عرض موسيقي يقدم حوارية تمتزج خلالها موسيقى الشعوب الأصيلة مع موسيقى الجيل الجديد.
ومن أقوى لحظات هذه الدورة:
> تكريم الباحثة الألمانية كريستل فايلر والمسرحي المغربي محمد بهجاجي.
> فرجات مسرحية (مغاربية، عربية، وغربية) مرتبطة بموضوع الندوة
> تقديم أكثر من تسع إصدرات جديدة من منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة وغيرها.
> ماستر كلاس لفائدة الباحثين الشباب من تأطير خبراء دوليين. (تونس، فرنسا، السويد، العراق)
> أوراش لفائدة المسرحيين المحترفين والهواة والأطر التربوية التي تؤطر أندية المسرح بالمؤسسات التعليمية من تأطير خبراء دوليين ( تونس، ألمانيا وفرنسا).
> محاضرات رئيسة بالإضافة إلى جلسات نقدية وموائد مستديرة بمشاركة ثلة من الباحثين والفنانين المرموقين من المغرب والعالم العربي وباقي الدول…

افتتاح بعطر الوفاء

برحاب الجامعة الأمريكية نيو إنجلند، عرف افتتاح هذه الدورة 13 من مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية تكريم شخصيتين اثنتين؛ ويتعلق الأمر بكل من الباحثة الألمانية كريستل فايلر والمسرحي المغربي محمد بهجاجي.
وخلال تقديمه للشخصية المكرمة الأولى، قال مدير هذه الدورة المبدع محمد قاوتي، إن تكريم الباحثة الألمانية كريستل فايلر في هذه الدورة يأتي لاعتبارين أساسيين: الأول؛ هو أنها ومنذ مشاركتها في فعاليات الندوة العلمية لطنجة المشهدية سنة 2009، وهي حريصة على مواكبة النقاشات التي يطرحها المركز الدولي لدراسات الفرجة بمعية شركائه العلميين. والاعتبار الثاني، لارتباط اسمها بالتحدي من داخل فن المسرح بوصفه تحفيزا للذات على تجاوز ما هو ثابت فيها، حيث وصل تأثيرها في كل من يتلقى خطابها الواعي عنه إلى مداه الأقصى وهو يشاركها إقامتها الدقيقة في عروضه على الخشبة؛ لأن حديثها عن بلاغة تفاصيله يشبه حديثا عن الأغوار لما تتمتع به من عمق في الرؤيا والانسلال إلى خفايا العرض وبواطنه. وقد يشعر المرء – في بداية حديثها – بحالة من الدهشة وهو يصغي إليها؛ لأنها تلتقط بذكاء نقدي يمكن أن تتحول معه الانطباعات إلى أثر جميل في المتلقي، ولاسيما مع حفرياتها المخصوصة التي تجعل هذا الملتقي مشدوها أمام نفسه عندما يعجز عن استيعاب تلك الانطباعات.
وقد أشار في معرض حديثه عن المحتفى بها إلى أنها عملت بشكل فعال في تأسيس قسم المسرح بجامعة برلين الحرة، حيث شاركت في صياغة أسئلة البدايات عن طريق حوارات بناءة ومثمرة، ليس مع زملائها وطلابها فقط، وإنما أيضا مع الفنانين، والمخرجين، والسينمائيين، والممثلين..
أما بالنسبة لمحمد بهجاجي، فقد جاء تكريمه أيضا لاعتبارين أساسيين؛ أولهما، أنه من أصدقاء المهرجان الأوفياء الذين ساهموا في إنجاح عدد من المحطات التي لا يمكن نسيانها من تاريخ طنجة المشهدية، خاصة خلال تكريم الفنانة المسرحية الرائدة ثريا جبران، والمسرحي والممثل السينمائي الكبير محمد مفتاح.. وثانيهما، لكونه واحدا من الأسماء التي ساهمت في إثراء المشهد المسرحي تأليفا، تدبيرا وتأطيرا. حقق زخما إبداعيا وازنا في الكتابة للمسرح تأليفا واقتباسا، إضافة إلى مسار طويل في الكتابة النقدية التي تميزت طوال هذه الفترة بعمقها ورزانتها. وبالإضافة إلى ذلك، مكنه عمله في حقلي الإعلام والثقافة، من محاورة وجوه فكرية وسياسية متعددة، ومن تسجيل مذكرات مفكرين وفنانين، ومن حضور ومتابعة مجموعة من التظاهرات الوطنية والعربية والدولية.

مؤتمر فكري رفيع المستوى.. المسارح ملتقيات طرق لثقافات العالم المتعددة
ناقش المؤتمر الدولي لمهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية في دورته الثالثة عشر موضوع “الأشكال المسرحية المهاجرة”، في محاولة لمواصلة النقاش المتعلق بأسئلة تناسج ثقافات الفرجة على وجه الخصوص، واجتراح أسئلة جديدة متعلقة بفنون الفرجة عموماً. ويأتي اقتراح هذا الموضوع للنقاش، لإبراز مواقف مغايرة تنادي بضرورة إيجاد خطاب ومعجم يكشف عن حقيقة التفاعلات المربكة للأشكال المسرحية المهاجرة. ويمكن تفسير هذا الطموح الجديد برغبة ملحة لإعادة مساءلة مختلف العلاقات التي ربطت بين المسرح العربي ونظيره الغربي، وأيضا البحث عن معجم أو “مصطلحات جديدة” تُقِر بضرورة إعادة إلقاء نظرة كارتوغرافية على التوزيع والانتشار الجغرافي – الثقافي حول العالم؛ حيث تتم مقاربة الإبداعات المسرحية الإنسانية – بما فيها العربية – من خلال واقع انتقال الخبرة والمعرفة، وإعادة توزيعهما عبر المعمور عن طريق تبادل الأشكال الإبداعية، واقتراضها وتداولها من طرف الثقافات والحضارات المختلفة، من دون إغفال جانب الهيمنة الذي غالبا ما يتعلق وينتقل مع هذا النوع من التعاطي الذي يَنْتُجُ عنه نوع من التناسج الثقافي؛ وذلك كله اعتمادا على مواقف الطرف المستورد لثقافة عرض معينة. لأن المسارح تُعدُّ ملتقيات طرق لثقافات العالم المتعددة، ونقاط التقاء تلعب فيها الحركية والترجمة أدوارا هامة في تناسج ثقافات الفرجة وفي التبيئة الثقافية؛ ذلك أن المسارح فضاءات بينية للاحتكاك الثقافي، تسهم في بروزها كل من الأمكنة التي تلتقي فيها الثقافات المهاجرة.
محاور نقاش الجلسات العلمية لهذه الندوة، تناولت مختلف الجوانب التي تلامس صميم الموضوع، حيث ناقشت سُبل بناء ثقافة فرجوية كونية تتجاوز قيود الإمبريالية الكونية، وكيف تنتقل تقنيات الجسد في المسرح والرقص وباقي فنون الأداء عبر البلدان، كيف يكون الأداء مقابل السلطة نقدا للهجنة، كيف نؤطر الممارسة المسرحية ما – بعد المستعمرة.. إلى جانب نقاشات أخرى تناسلت من رحم قاعة الندوات في كل جلسة.
وقد خلص المتدخلون إلى أن المسارح لم تكن في يوم من الأيام بنيات ثقافية ثابتة، ومنغلقة، أو مكتفية بذاتها كليا؛ بل كانت وما تزال “فضاءات للتفاعلات المُربكة” ومجالات تلتقي فيها الحقائق الانتقالية وتتقاطع باستمرار. وتعد المسارح أيضا ملتقيات طرق لثقافات العالم المتعددة، كما أنها نقاط التقاء تلعب فيها الحركية والترجمة أدوارا هامة في تناسج ثقافات الفرجة والتبيئة الثقافية. هكذا، تتخطى الثقافات المسرحية مواقعها الثابتة؛ ذلك أن المسارح فضاءات بينية للاحتكاك الثقافي تسهم في بروزها كل من الأمكنة التي تلتقي فيها الثقافات المهاجرة والأشكال المسرحية الهاربة. والمراد من استعارة “الأشكال المسرحية المهاجرة” هو تسليط مزيد من الضوء على فضاءات الاحتكاك بين ثقافات فرجوية مختلفة، وما يترتب عن تفاعلاتها من “تلق منتج” بوصفه الوجه الآخر للأشكال المسرحية المهاجرة؛ إذ يتيح هذا التلقي المنتج لعناصر من الثقافات الفرجوية الأجنبية إمكانية التحول الثقافي من خلال سيرورة العرض المسرحي. فيصبح المسرح الخاص بنا، ومعه ثقافتنا برمتها، أكثر انفتاحا ورحابة. ولعل إمعان النظر في الكم الهائل من الخبرات الأدائية المتراكمة عبر العصور يؤكد قوة استعارة “الأشكال المسرحية المهاجرة”. فبالرغم من كون التركيب البنيوي للجسم الإنساني موحدا ومتشابها، إلا أن تقتيات الجسد بوصفه أخص من الجسم، مكتسبة؛ إذ تختلف من جسد لآخر. والحال أن هذه التقنيات المكتسبة قابلة للانتقال والهجرة، بما في ذلك الخبرات الأدائية شديدة الدقة كتلك التي يتمتع بها مؤدو البالي أو الكاتاكالي.

“خريف” و”سيلفي” يُشعلان شمعة الدورة الثالثة لمهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية

فعاليات هذه الدورة، تميزت بعرض افتتاحي مميز، وهو عرض “خريف” لفرقة “مسرح أنفاس” المغربية الفائزة بالجائزة الأولى في المهرجان العربي للمسرح بالجزائر خلال هذه السنة.
العرض، يحمل للركح حالة استبطان، من خلال بوح امرأة (مصابة بالسرطان)، يكشف لنا يومياتها المحمومة والهشة، المكررة والمقتضبة. وهو أيضا نشيد ملحمي يمجد الحياة ويسخر من الموت، وتوالد فني يعبر الجسد لينشر إلى ما لا نهاية انفجار الحواس، وليقترح إعادة التفكير في الحياة للاحتفال بها بشكل أفضل.
المسرحية، من تأليف فاطمة هوري، دراماتورجيا وإخراج أسماء هوري، تشخيص فريدة بوعزاري وسليمة مومني، التأليف الموسيقي للفنان رشيد البرومي…
بعد ذلك، وبفضاء متحف القصبة، قدم كل من الفنان أحمد حمود والفنانة نعيمة أولمكي من فرقة “دها واسا” مونودراما “سيلفي”، وهو عرض يحكي معاناة المرأة مع العقلية الذكورية المتسلطة، متبنيا موقفا من العقلية الذكورية (من خلال قصة طبيبة بيطرية درست في الخارج ورفضت الزواج المنبني على المصلحة لتجد نفسها متقدمة في السن)، وفي الآن نفسه يتبنى موقفا ساخرا من منطق الفيمينيزم..

“العريس” لمؤسسة أرض الشاون للثقافات

عرض “العريس” لمؤسسة أرض الشاون، دراماتورجيا أنس العاقل، إخراج ياسين أحجام، ومن تشخيص عادل أبا تراب، سعيد أيت باجا، عبد الحق بلمجاهد وآخرون.. هي تجربة مسرحية مستجدّة في تعاملها مع الرواية المغربية الحديثة. فهي صور متداخلة من ماض أليم جدا يبرز حقبة سنوات الرصاص بأوجاعها الجماعية والتي ظلت محفورة في ذاكرة الوطن. وتظلّ وجهة نظر الأديب صلاح الوديع ملقية بظلالها على أجواء الفرجة المسرحية بنفس ساخر جدا أقرب ما تكون إلى كوميديا سوداء أو بمعنى آخر ضحك كالبكاء.
عروض أخرى، من فرنسا ومن المغرب ومن آفاق مختلفة قدمت على مدى أيام فعاليات طنجة المشهدية. وما بين الجلسات العلمية والعروض الفرجوية، وطيلة هذه الأيام أيضا، برمج المهرجان على غرار دوراته السابقة ورشتين تكوينيتين: الأولى من تأطير الفرنسية جوييل راشيل في الأقنعة، والثانية من تأطير الفنان التونسي الفرنسي الكوريغراف رضوان المؤدب في الرقص والتعبير الجسدي… كما تميزت الدورة أيضا بتقديم وتوقيع مجموعة جديدة من إصدارات المركز الدولي لدراسات الفرجة ومن بينها مصنف جماعي رائع حول المكرم محمد بهجاجي أعده وأشرف عليه الأستاذ حسن اليوسفي، وساهم فيه عدد هائل من أصدقاء ورفاق الكاتب المسرحي المحتفى به من مسرحيين ومبدعين وشعراء وباحثين..

> طنجة: أحمد فرج الروماني

Related posts

Top