هل الروائي كازو إشيغورو يستحق جائزة نوبل للآداب؟!

كازو إشيغورو الموسيقي الفاشل:

مِن عازف قيثارة فاشل، نموذجُهُ الإبداعي والفني المغني الشعبي الأمريكي بوبْ دَيْلان، الحائز على جائزة نوبل للآداب في دورتها السابقة، إلى كاتب يجمع بين كتابة الشعر والسيناريو والرواية، ويطلِّق حلمهُ الموسيقي، دون أن يفارقه عشق الموسيقيين. ألم يكن نموذجه نفسُه مثار جدل كبير في السنة الماضية، حين اختير لنيل جائزة نوبل للآداب، وهو المغني وكاتب الكلمات؟ أليس من قبيل زلة اللسان، أن تقول سارة دانيوس، السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية، وهي سكرتيرة الجائزة، أنها تعود هذه السنة إلى حضيرة الأدب؟ وهي إذ تؤكد أن هذا الاستحقاق “علامة على عودة الجائزة إلى التأويل السائد للأدب”، لتدعونا إلى التساؤل: أين كانت إذن في السنة الماضية؟ وهل عادت فعلا وهي تسند إلى شخص “يلعب القيثارة ويكتب الأغاني، ويترنَّح مثل بوب ديلان”، كما جاء في الإعلام البريطاني. لكن، كيف لكاتب مُقِلّ لم تتجاوز أعماله الروائية سبع روايات، (آخرها صدرت منذ سنتين) وأضمومة قصصية قصيرة يتيمة، وسيناريوهات لا تكاد تتعدى أصابع اليد الواحدة، وقصائد معدودة غنتها مغنية الجاز الشهيرة كانت ستايسي، أن يحصل على جائزة نوبل للآداب؟ كيف وصل إلى العالمية، وهل بلغها فعلا؟ وما مفهوم العالمية لديه، ولدى مقوِّمي تجربته؟ وكيف لها أن تصل العالمية، وهي لم تُقْرَأ في البلد الذي كتَب بلغته؟ ألم يصرِّح هو نفسه في حوار له أن: ” للأدب مكانة ضئيلة في الحياة البريطانية”. ومع ذلك قيل إن مؤلفاته “حظيت باهتمام جمهور القراء، وكانت الأكثر مبيعا ورواجا”، منهم النقاد الذين احتفوا بتجربته من الأكاديميين، غير زُمرة الإعلاميين، الذين يقومون بمراجعة الكتب حين إصدارها، أو حين حصولها على إحدى الجوائز، بالإضافة إلى إطراء الأصدقاء الروائيين كسلمان رشدي وغْراهام سْويفت…؟ لماذا كان الحصول على الجائزة بالنسبة له هونفسه مفاجأة غير متوقَّعة تماما، جعلته يصرَّح للبي بي سي، قائلا: “أشعر بإطراء هائل”؟ لماذا لم يصدِّق الخبر واعتبر أن “في الأمر خُدعة”، على حد تصريحه لهيئة الإذاعة البريطانية؟ ألم يقل عقب الإعلان على الجائزة: “هذا نبأ مذهل وغير متوقع على الإطلاق”، وإطراء صاعق”.
ومع ذلك، تراه يصرِّح للقناة المذكورة نفسها: “أنا على خطى الكتاب العظام الذين عاشوا على وجه البسيطة”.
ألم تؤكد الكاتبة الصحفية أليسون فلاد، وهي المتتبعة المحنَّكة للإصدارت في صحيفة الغْوارديان: “كان إشيغورو اختيارا مفاجئا”؟
ألم تعتبره هذه الإعلامية مجرد “كاتب جيد إلى حد ما، ولا يستحق بالتأكيد كل هذا التعظيم”. لماذا هذا “التعظيم” المفاجئ عقب الإعلان عن الجائزة؟ وهل المناسبة هنا شرط لتبرير شيء نفاه عنه الآخرون؟ وفي هذا السياق يمكن فهم الأصوات الصحفية وغيرها التي انْبرَت لتحصيل الحاصل. فمؤرخ الأدب الإنجليزي البروفيسور جون مولان.
قال عنه بالمناسبة: “كاتب جريء وأصيل”، و”روائي كل الأزمنة” وفوزه مستحق، بل إن البعض وصف مساره الإبداعي بأنه “لن يخطئ جائزة نوبل للآداب”، ومنهم ناتالي كروم.
وفي سياق “الأصالة” التي ابتهج بها جون مولان، نجد أن صحيفة نيويورك تايمز تصفه بـ”العبقرية الأصيلة والمرموقة”. فما معنى “أصيل”، هنا، وكيف تكون أصالته أكثر وأعظم من أصالة منافسَيه: الياباني والكيني؟ وما معيار “الأصالة”؟ هل في تبنى اللغة الإنجليزية البريطانية باقتدار وبراعة، والتعاطف الكبير مع ثقافة وعقلية البلد الذي تبناه؟ هل المفاجأة جاءت من أنه لم يراكم تجربة إبداعية وافرة؟ أم من كونه لم يكن على الإطلاق من المرجّحين لنيل الجائزة، بخلاف الياباني هاروكي موراكامي أو الكاتبة الكَندية مارغريت أتوودْ أو الكاتب الكيني نغوغيو اثيونغو؟ ألم تنقل وكالة رويتر صورة لأجواء الاحتفالات بالروائي الياباني هاروكي موراكامي بدلا منه، توقعا لحصوله على الجائزة؟ لماذا أخطأته الجائزة، وهو الكاتب الواسع الانتشار، هل لأنه يكتب باليابانية، ويطعِّم المخيال الياباني بترجمة الإبداع الروائي الإنجليزي، خلافا لإيشيغورو الذي يكتب بالإنجليزية، وبالكاد يعرف شيئا عن الخيال الياباني؟لماذا لم يجد البعض من تبرير للجائزة غير إضافة رواية إلى رواياته السبع، لتصبح “ثماني روايات”، وتضخيم عدد الترجمات لتصل إلى “40 لغة”؟ وهل رُتبتُه حتى داخل سِرْب الكُتّاب الإنجليز تؤهله لهذا التتويج؟ ماذا يعني أن تصنِّفه صحيفة التايمز سنة 2008 في الرتبة 32 من قائمة الخمسين مؤلفا بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية؟ المتتبع، إذن، للَحظات تلقي أعمال الروائي كازو إشيغورو البريطاني الجنسية والياباني المولد، لا شك أنه سيلاحظ اختلافا كبيرا في التعاطي مع تجربته، فمنهم من يعتبر صاحبها من أروع الكتاب المعاصرين، ومنهم من تلجلج في تلقي أعماله الصادمة، بل من اليابانيين من تساءل مستغربا: “تبًّا، من هو كازو إشيغورو هذا “، علما بأن رواياته ومجموعته القصصية نشِرت كلها مترجمة إلى اليابانية، غير أننا لا نعلم مدى انتشارها بين جماهير تجهله. فلماذا نوبل إذن؟ وما هي الأعمال التي نالت هذا الاستحقاق؟لماذا نوبل؟إضافة إلى التحْليات التي جاءت من وحي اللحظة، وهي في مجملها مقتبسة من الخطاب الرسمي للقيِّمين على الجائزة، قالت الأكاديمية السويدية إنها منحت كازو إشيغورو(وعمره 62 سنة)، جائزة نوبل للآداب لأنه، حسب تصريح سارة دانيوس
السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية، “يكشف، في رواياته ذات
الشحنة العاطفية القوية، عن الهاوية الكامنة في عمق شعورنا الواهم في صلتنا بالعالم”. يبدو أن التقويم لم يأخذ بعين الاعتبار أنه كاتب سيناريو وشاعر، هل لأن هذا لا يعتدُّ به
في تجربة الرجل؟ لا شك أن السيرة التي نشرتها الأكاديمية السويسرية قد أغفلت هذين الشقين من تجربته.

مفهوم العالمية عند إيشيغورو في ضوء إشكالية التأثُّر:

إذا كانت الجائزة تراهن على “العالمية، والانتشار، عبر الترجمات وتحطيم الأرقام القياسية في عدد النسخ المطبوعة. فما هي “العالمية” بالنسبة لكاتب هجين؟يقول إشيغورو: “أنا كاتب أسعى إلى كتابة روايات عالمية. ما هي الرواية (العالمية)؟ أعتقد أنها، بكل بساطة، هي تلك التي تتضمن رؤية عن الحياة تكون لها أهمية بالنسبة للناس من مختلف الخلفيات حول العالم. إنها تتعلق بالشخوص التي تحلِّق عبر القارات، ولكنها تستقر ببساطة في منطقة واحدة صغيرة”. ومما جاء في تصريحه للبي بي سي عقب حصوله على الجائزة: “إنه لشرف عظيم أن أحصل على هذا التتويج لأن هذا يعني أنني أمشي على خطى الكتاب العِظام في كل الأزمنة، إنه اعتراف رائع. فالعالم اليوم يمر بفترة عظيمة من اللايقين، وآمل أن تكون مجموع جوائز نوبل قوة إيجابية في هذا العالم”.هجنة الكاتب، وهجنة الكتابة، هما المدخل الآمن “للعالمية” اليوم.
وفي هذا السياق، يمكن أن نقرأ تصريح سارة دانيوس سكرتيرة الجائزة: “حين نمزج بين جين أوستن وكافكا، نحصل على كازو إشيغورو”.فعمله مزيج من جين أوسن وفرانز كافكا. لكن الخلطة لم تكن كافية لناقد إنجليزي: “ينبغي أن نضيف إلى الخلطة شيئا من مارسيل بّروست، ونحرِّك قليلا ، لكن ليس أكثر من اللازم لنحصل على كتاباته”. لقد أقرّ الكاتب فعلا بتأثره الكبير بدوستويڤسكي ومارسيل بّروست. فروايته: من لا عزاء لهم، اعتبرها النقاد إعادة كتابة للخرافة الكافكاوية، بسردها القلِق الأسيان.على الرغم من أن أحداث روايتيه الأولييْن تقع في اليابان، إلا أنه صرح في العديد من الاستجوابات موضِّحا لقرائه أن له إلمام ضئيل بالكتابة اليابانية، ولأعماله شَبَه قليل بالخيال الياباني. ومع ذلك، فلبعض الكتاب اليابانيين تأثير في كتاباته، فهو نفسه كثيرا ما يشير إلى تانيزاكي جوِين تْشيرو، كما أن للأفلام
اليابانية تأثير قوي عليه، وخاصة أفلام أوزو ياسوجيرو.
في حوار له مع كينزابورو أوي، يذكر أن الخلفية اليابانية في عمليه الأوليين كان متخيَّلا: “ترعرعتُ وأنا أحمل صورة قوية في ذهني
عن هذا البلد الآخر، بلد آخر هام جدا، تربطني به مشاعر قوية…في إنجلترا كان لدي الوقت الكافي لبناء هذه الصورة في ذهني، صورة يابان متخيَّل”

خريطة التجريب الروائي عند إشيغورو:

إن طفلا اقتُلِع من جذوره اليابانية، ليُغرس في تربة بريطانية، تبقى الذاكرة هي صمّام الأمان لاستحضار آخرِه (لأن اليابان أصبحت بالنسبة له آخر) الذي تلقاه في الكتب الدراسية الإنجليزية، بما في ذلك حادث ناكازاكي وهيروشيما. قيل عنه إنه يكتب بـ”حِبرالذاكرة”، هو الذي سافر إلى أمريكا وكندا، وكتب مذكراته. والعديد من روايته اتخذت ثيمة الماضي موضوعا لها، وكُتبت بضمير المتكلم. ولربما كان هذا وراء تغيير مساراته الروائية، من التخييل الفاناطاسي والعجائبي إلى الخرافي والغريب إلى الخيال العلمي إلى القصة البوليسة إلى التاريخي إلى الأسطوري. باختصار إنه مؤلِّف يشوِّش المسالك، متنقلا بين أنماط الرواية: من الرواية الواقعية إلى الرواية الاستباقية. لكن وراء تلك الأقنعة تكمن ثيمة أثيرة لديه، إنها استكشاف الآفاق، واستغوار النفس، وعبور الأزمنة. في كل كتاب تقريبا “يغيِّر إيشيغورو رؤيته وأسلوبه وديكوره، بمهارة تقنية مذهلة”، على حد تعبير الناقدة والصحفية الفرنسية فلورانس نْواڤيل.
 فقد ذهب في روايته: “لا تدعني أرحل”، إلى استثمار الخيال العلمي، حيث تخيّل مستوطَنة من المستنسخين أُعِدوّا للتبرع بأعضائهم إلى غاية اللحظة التي لم يعد جسمهم قابلا للاستغلال،”إنه نصير للانزياحات العظمى، يقفز من أقاصي ذاته إلى
أقاصيها”، كما تقولفلورانس نْواڤيل. ومن السفر في الذات إلى غواية السفر عبر الزمن، حيث “يتخلى عن إنجلترا القديمة الراقية من أجل إنجلترا نهاية الإمبراطورية الرومانية، مستكشفا هذا الماـ بَيْن أو هذه الحقبة البرزخية في التاريخ البريطاني.  وهو حقل روائي بقدر ما هو خصبٌ وغني، يبقى مكتنفا بالأسرار” (نْواڤيل).

خصوصية تجربة:

لعلَّ عبور مسالك التجريب الروائي، لم يلهِه عن تقنية روائية، كرَّستها نصوصه كلها، وهي التي عبرت به إلى منصات التتويج، يتعلق الأمر بالسماح للشخوص بتعرية فشلها. والانتهاء دون حل الصِّراع، بنبرة إذعان بائس، تقتنعُ الشخوصُ بأنه بلسم العذابات النفسية. فمنذ روايته الأولى: نظرة شاحبة على التلال، أحسَّ النقاد بأنهم أمام “رواية سَنَّت شيئا ابتدائيا وجوهريا، إنه حاجة الإنسان إلى تخييل أصوله”. لذلك لم يكن عبثا، وإنما حاجة أونطولوجية عميقة، هي التي حركت مخياله في باكورة رواياته ليسرد قصة مغترِبِين يابانيِّين في إنجلترا.فبدت القصة وكأنها متأصلة في تجارب أسرته هو نفسه، الذي نزح مع والديه من ناكازاكي إلى ضواحي لندن، وهو في سن الخامسة من عمره. وظلت تجارب الانغراس تلاحقه في كل أعماله، فاستُخدِمت لاستكشاف الوحشة في الزمان والمكان. قالت عنه سكرتيرة الجائزة: “إنه يهتم جيدا باسترجاع الماضي، لكن ليس على طريقة بّروست، إنه يطمح إلى استكشاف ما ينبغي أن ننسى من أجل البقاء على قيد الحياة في المقام الأول كأفراد ومجتمعات”. وحسب الأكاديمية: “الذاكرة والزمن والوهم الذاتي” هي نسيج عمله، خاصة في رواية: بقايا يوم.وإلى غاية روايته الأخيرة: العملاق الدفين، ـ تقول الأكاديمية السويدية ـ يبقى الهاجس نفسه هو المتحكِّم في مساره السردي، فهذه الرواية: “تستكشف، بطريقة حركية، كيف ترتبط الذاكرة بالنسيان، والتاريخ بالحاضر، والخيال بالواقع”. ولا شك أن الانشداد إلى الذاكرة، ونوستالجيا الطفولة اليابانية، هو الذي سيرهن مستقبل الكتابة لديه بالقصة المصَوَّرة، كما يؤمِّل مستقبَلا: “أطمح إلى كتابة قصص مصوَّرة.. وأنا بصدد الحوار مع من سيشتغل معي لعمل رواية مصوَّرة، وما يثيرني هو أن هذا جديد علي، ويربطني بطفولتي، حين كنت أقرأ الرسوم المصورة (مانغا). لعل من أهم ما يميز كتابته التخييلية هو أنه جرّب ـ وما يزال ـ طرائق سرد يقول أقل مما يعنيه. وحسب الشاعر إندرو موشَن:
“للعالم التخييلي لدى إشيغورو مزية عظمى وقيمة جليلة، لأنه فردي بشكل عالٍ، وفي الوقت نفسه عميق الألفة، إنه عالم من الحيرة والترقب والتهديد والعزلة والدهشة”.

الموسيقى والكتابة، أية علاقة؟

في سن الخامسة عشرة، كان إشيغورو يكتب الأغاني، ولا يعيش إلا مع قيثارته وبها، يعزف عند ميترو باريس، يُجِلُّ بوب دايلان، عبثًا طرق أبواب دور التسجيل.
“في سن الرابعة والعشرين، عدلتُ عن فكرة أن أصبح موسيقيا محترفا. فسجلتُ نفسي في درس الإبداع الأدبي بجامعة شرق إنجلِيا، ثم شرعتُ في الكتابة”. في هذه الحقبة، كان هذا الدرس هو أحسن دروس الكتابة الإبداعية في دروس إنجلترا) غير مشهور كما هو اليوم. “كنا ستة أفراد فقط، أكثر مما كان عليه الأمر سنوات قليلة قبلُ، حيث كان التلميذ الوحيد لـ مالكوم برادبوري.
“كنت متخوفا جدا. ما لم أكن أعلمه هو إلى أي حد كان التأليف الموسيقي قد هيأني للكتابة. فبين أغنيةٍ وأقصوصةٍ، هناك بالنسبة لي اختلاف ضئيل. كنت أكتب بضمير المتكلم، وكان صوتي هو نفسه. ثم هناك الشكل القصير، والمعنى الذي ينبغي أن يطفو، دون أن
يخترق سطح الكلمات.. المغني مثل القارئ، يجب أن يكون قادرا على التعبير عن نفسه”. لكن، رغم فشله في أن يختط لنفسه مجْرى ثابتا في عالم الموسيقى، إلا أنه أدرك بعمق كيف أن هذا المكون الفني والوجداني عنصر فعال في تشكيل الكتابة، وإمدادها بنسغ التجديد. “يمكن أن أناقش إلى ما لا نهاية العلاقة التي تربط الكلمات بالموسيقى، وكيف أنهما يتعايشان في سياق الأداء”.
فحينما كتب نصوصه القصصية الخمسة: ليْليّات: خمس قصص للموسيقى والغروب، قال لقارئه: “لا تتطلعْ إلى قراءتها بعينيك، بل اقرأْ بأذنيك”. الموسيقى حاضرة في أعمال إشيغورو، منذ رواية: “من لا عزاء لهم”،حيث السارد عازف بيانو شهير، إلى رواية: “لا تدعني أرحل”، حيث تنصت البطلة دون كلل أو ملل لنفس القرص. غير أن الكاتب ـ حسب النقاد ـ لم يذهب بعيدا إلى حد خلق نوع من الانصهار بين الفنَّيْن. ومع ذلك، فنصوصه القصصية القصيرة ذكرت البعض بهنري جينس، أو بطوماس مان، أو بالمايسترو الإسباني بّابلو كاسالس.

من العالمية الكولونيالية إلى عالمية العوْلمة:

في الوقت الذي أصبح فيه المغتربون رافدا من روافد الأدب العالمي، أضحى مستقبل الأدب، وحتى الأدب المقارن ـ حسب كبار المقارنين أمثال جان بيسيير وإيڤا كوشنر ـ هو أدب الهُجنة العابر للثقافات واللغات، والذي قد يصل إلى العالمية عبر إتقان اللعبة البرزخية. وهذا ما حصل وسيحصل في جوائز الألفية الثالثة. ونحن بصدد إشيغورو، لا يسعنا إلا أن نترجم هذا التصور :”قال له أصدقاؤه من الإنجليز واليابانيين على حدٍّ سواء، إن أيًّا من روايتيْه الأخيرتين يمكن أن يكتبهما شخص عاش في إنجلترا فقط أو في اليابان فقط، إذ لا يمكن لياباني أن يكتب عن القضايا المتعلقة بالإحساس بالذنب بكل هذه البرودة، كما لا يمكن لإنجليزي أن يكتب عن كبير الخدم دون التطرق إلى الصراع الطبقي، وهو موضوع يقول السيد إشيغورو بأنه لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد”. ولإظهار مدى تغلغل هذا الموقف في فكر إشيغورو، وتبيان أن الكتابة بلسان الآخر، والتأليف بلغات المستعمرين القدامى، ليست اليوم حركة أدبية فحسب: “المسألة أكثر من مجرد حركة أدبية، إنها قضية الطريقة التي تفكِّر فيها بريطانيا في نفسها. علينا تذكُّر أن بريطانيا في مضى من الزمان، كانت تفكِّر في نفسها كإمبراطورية ضخمة. ومنذ أمد بعيد لم يكن الكتاب الذين يكتبون الأدب الإنجليزي بحاجة إلى التفكير بوعي حول ما إذا كانت كتابتهم عالمية أم لا. كان بإمكانهم الكتابة عن أصغر التفاصيل في المجتمع الإنجليزي، لتكون موضع اهتمام شعوب في أقاصي الدنيا؛ لأن الثقافة الإنجليزية نفسها كانت ذات أهمية عالمية. ولهذا لم يكن عليهم أن يفكِّروا في ما إذا كان فردٌ من شنغهاي غير مهتم بطريقة تناول الشعب الإنجليزي لوجبة العشاء..: أجل، لكن كان مفروضا عليهم أن يهتموا. هذا هو الموقف، لأن الأمر يتعلق بالثقافة المهيمنة عالميا. وهي الثقافية التي يجري الإكراه على تقبلها أو إقحامها في ثقافات أخرى حول العالم. وإذا كان على المرء أن يطَّلع على العالم في بحر القرنيْن أو الثلاثة قرون الماضية، كان عليه أن يعرف الثقافة البريطانية. لكن هذا عهد انتهى، كما ترى. وكان على إنجلترا أن تتجاوز عتبة الحرب العالمية الثانية، لتُدرك ذلك. وهكذا، وعلى حين غِرّة، حينما شرعتُ في الكتابة، أعتقد أن الشعب توصَّل إلى هذه الحقيقة: إننا لسنا مركز العالم. إننا مجرَّد مكان خلْفي صغير من أوروبا. وإذا رغبنا في الإسهام في العالم، أعني ثقافيا، علينا البحث عما يحدث في بقية العالم. والأمر نفسه ينطبق على الأدب. فلم يعد جيدا بعد الآن الخوض في الفرق بين إنجليزي الطبقة العليا المتوسطة، وبين زوجته من الطبقة المتوسطة الدنيا. هذا محْضُ ضيقِ أُفق. لقد تطلعنا إلى الخارج على نطاق أوسع، ونحن نريد كُتّابًا وفنّانين بمكنتهم أن يقولوا لنا كيف نتمكن من الانسجام مع بقية
العالم. إننا نريد أخبارا من الخارج. وأعتقد أن هذا تحولٌ كبيرٌ، وإدراكٌ عميق، كون بريطانيا لم تعد قلبَ إمبراطوريةٍ، وإنما مجرد بلَد صغير، وإن كان قويا”. وهذا التصور هو الذي يحمله صديقه كينزابو أُويِ في إحدى محارواته معه: “أعتقد أن ما على الكتاب اليابانيين معرفته، هو أنهم بحاجة إلى التفكير في كيفية إسهامهم في الثقافة العالمية باعتبارهم
ممثلين لأُمة صغيرة، لكن مثقفة، في آسيا. وعليهم القيام بذلك بدون مساعدة رجال الأعمال أو السياسيين. عليهم أن يفتحوا الطريق أمامهم بعصامية إلى إنجلترا أو فرنسا، ككتّاب لا غير”.

ملحوظة:
نظرا لضيق الحيز، تعذر علينا إدراج بيبليوغرافيا أعماله واستحقاقاته وكذا الهوامش، فمعذرة.

> بقلم: عبد النبي ذاكر

Related posts

Top