الفنان الفوتوغرافي سمير بناني: سحر المغرب ومتخيله البصري

تزاوج تجربة الفنان الفوتوغرافي سمير بناني ( مواليد 1968 بالدار البيضاء ) بين البحث و التجريب. تحتفي أعماله التشكيلية ببلاغة اللون و الشكل، مستعيدة الأزمنة المفقودة للمغرب عبر فضاءات تصويرية تزاوج بين التشخيص التعبيري، و التسجيل الوثائقي.
صوره الفنية مهداة إلى محبي الحكمة، السالكين سبل الانفتاح و التبادل، لا سبل الادعاء و الجحود. نتمثل في صوره- لوحاته إحساسا عميقا بالمكان و الزمان: المكان كروح للطبيعة الأولى، و الزمان كحيز أقوى من الدهر. مرهف و شاعر وحكواتي بصري بطبعه ، هو سمير بناني يطلق العنان لتلقائيته المفرطة في الفيض. إنه رحالة يلقي نظراته باستمرار جهة شركاء حياته، من صناع الجمال ، و مهندسي الروح.
ها هو يزهو بالإرث الحضاري المشترك لثقافة الفروسية ورموزها بثقة حازمة ، و خطى حثيثة دونما جلبة أو عجعجة. تراه متماهيا مع عوالمه الداخلية التى تؤثث حالاتنا الروحية على امتداد مساحات إيحائية تدعونا للسفر، و ارتياد مجاهل الذات. نحلق بدون أجنحة ، علنا نرقى بأحاسيسنا السماوية إلى مدارك الروح. يحدق الفنان إلى النور الطبيعي المغربي بعيون يقظة ، و يقبض على لحظاته الهاربة بأنامل وديعة ، منصتا لنغمات الروح من وراء ضجيج الحضارة المدنية،و جلبة سكانها العميان بصريا. يعيش طقس العبور بين إسبانيا و المغرب، رافعا لوحاته الإنسانية أقصد صوره الفوتوغرافية إلى صناع حقيقة الجمال، و الخير، والحق، و كأنه يردد بلغة الحالمين مقولة جبران خليل جبران: “الأرض كلها وطني و جميع البشر مواطني” (دمعة و ابتسامة)
ألوان المغرب الناصعة والبهية فتحت بصيرته، و طيبوبة المغاربة جلت نظره الداخلي، و الرأسمال الطبيعي علمه لغة القلوب و العقول معا . أهدى سمير بناني كل عوالمه الفنية التي أنجزها بالمغرب إلى الأرواح المتحررة من قيود المادة، معتبرا الإبداع مجازا بصريا يعانق الحقيقة و يشاكسها بشغب و حكمة. إنها حقائق من سيرته الذاتية التي انطبعت بمحطاته المهنية . كما أنها تشربت بمعين التجربة الفنية التي ارتادها بروية و تبصر. فبين عالمي الفن و الرحلة، تفتقت أزهار موهبته الإبداعية على مسرح الأحلام، فكان الإبداع التشكيلي بكل مفرداته البصرية الكبرى (أجواء االأمكنة، بورتريهات، فضاءات أثرية ، حالات الأحصنة وتنويعات الفروسية …الخ) حلقة تصل بين الآني و الآتي.هكذا تفصح أبحاثه الإبداعية عن هوس شديد بالحقائق الذاتية التي تبين أسرار النفوس، و تذكي شرارات التحليل و التأويل.
فعلى مسرح أحلامه المذكورة، أبى سمير بناني إلا أن يقدم ما تبقى من سجل حياته إلى هذا البلد العريق الذي احتضن أول معارضه إلى جانب العواصم الغربية ، و هو نسمة من عواصف مذكراته اليومية.
إن الفن، كما يتصوره الفنان ، ديانة باطنية، و حياة مقدسة. أليس الجمال دين الحكماء كما ورد على لسان شاعر هندي؟ أليس الجمال، أيضا، نصيب المتأملين بتعبير جبران خليل جبران؟ ألا يتساوى الموت و الحياة بالجمال؟ في بحار ألوانه المتدفقة، و عوالمه المجازية، يهيم المتلقي ، و يصغي لأنغام الذات المعزوفة على قيثارة الروح.
طوبى للمغرب فقد جعل سمير بناني على غرار عدة فنانين عالميين (ماتيس، دولاكروا، دوستايل، ماجوريل…الخ) يفكر بضمير المفرد بصيغة الجمع. فسحر طبيعته ، و سخاء سكانه بيانه الجميل، وعينه الثالثة التي فقدتها الإنسانية داخل كوابيس العولمة الموحشة.
سمير بناني ، قوة هادئة و هادرة في الآن ذاته. فنان يعيد بناء عوالمنا الداخلية و الخارجية معا موغلا في متاهة الأزمنة المفقودة، و جاعلا من المكان البطل الإشكالي لصوره الفوتوغرافية الفنية. لكل مؤشر بصري سطوته في التاريخ الخاص، فهو دعوة مجازية للبحث في الماضي، و التدرج من المرئي إلى اللامرئي. لكل مؤشر بصري، أيضا، حكايته التي تسامر وحشتنا و تناجي نفسنا. لقد عرف كيف يسير إلى الأمام دون اكتراث و مواربة. فهو لا يعرف الوقوف البتة، لأن الأمام بالنسبة له طريق البحث عن الكمال النسبي.
ليست أعمال سمير بناني مجرد محاولات تجريبية تراهن على الشكل و تتوق إلى الجمال الظاهر. إنها، على عكس ذلك ، رسائل معرفية و عرفانية معا، تهجس ببعض أسرار الحياة التي تعرج بنا من مكان إلى مكان، و تنتقل بنا من محيط إلى آخر ، و نحن لا نرى إلا حقائقنا الخاصة ، و لا نسمع إلا أصواتنا التي تسكن جوارحنا.
لعمري إنها حياة تتوزع بين الحقيقة و الخيال. حياة انبجست من ظلال و أنوار االصور. حياة لا يدرك نواميسها إلا من تعقل و تأمل، لأنها مستوحاة من فضيلة تمجيد الذاكرة التي انعتقت من ربقة المادة.
الفنان سمير بناني صاحب تجربة بصرية فريدة في الحركة التشكيلية بالمغرب خاصة في بعدها الإيحائي. لهذا المبدع مراس عنيد لا يعرف الملل و الاستكانة، يشده من صورة تركيبية إلى أخرى بعين الراوي الذي يجدد عتبات محكياته الشعبية الشيقة في المكان و الزمان.
إنه يدرك جيدا بأن أبواب الرؤيا تنفتح كلما انغلقت أبواب الرؤية. هاهنا، لا مجال للعبارة و للإيحاء المباشر. فالمتلقي البصري لأعماله التشكيلية الحكائية مطالب بإتقان فن التأويل و فك الشفرات المرسومة بعناية و حس فطريين.
بدهشة و فضول على طريقة الأطفال الباحثين عن معنى الأشياء و الكائنات، نبحر سويا في مدارات البوح الظاهرة و الباطنة لعلنا، في المحصلة النهائية، نقف عند إضاءات النصوص البصرية المفتوحة التي يلتقي فيها المتخيل، و الأسطورة، و التاريخ، و المعيش المشترك.
كل الذين شاهدوا سجلات بوحه لبصري المتدفق أجمعوا على أننا في خضم مغامرة مزدوجة : مغامرة السرد البصري، و مغامرة القراءة و غوايتها.
 منصف عبد الحق

Related posts

Top