أعلام من حاضرة المحيط آسفي..

تربة مدينة آسفي خصبة وغنية، أعطت شخصيات ازدانت بهم صفحات الماضي، منهم العالم والشاعر والمؤلف والمفتي، ومنهم المشهور ومنهم المغمور، ومنهم من هو أسفي الأصل والمولد والتربية والمدفن، ومنهم من عمر طويلا في أسفي.
لمدينة آسفي أعلام ورجالات رصد تاريخهم وعطاءات بدقة يعد بابا عسيرا وصعبا لعدة أسباب أهمها ندرة المصادر وانعدام المراجع وشح أصحاب المعلومة وقلتها، ناهيك عن البحث في الشوارب والمخطوطات ولم الوثائق المبعثرة والمهملة بعضها على بعض.
رغم ذلك، يظل البحث قيمة مضافة لإبراز دور مدينة اسفي التي تعتبر من الحواضر المغربية الأصيلة التي ساهمت بدور فعال في بناء صرح الثقافة المغربية في مستوياتها المختلفة وأزمنتها المتعاقبة، وذلك على الرغم من انزواء هذه المدينة بجانب البحر المحيط ووجودها بعيدا عن دائرة القرار السياسي.
مدينة آسفي لم تتوقف عن العطاء الثقافي والفكري، فبرز أعلام كبار امتدت شهرتهم في الآفاق أمثال الشيخ أبي محمد صالح وأبنائه وأحفاده والشيخ محمد بن سليمان الجزولي والفقيه محمد العبدي الكانوني وغيرهم، وقصدها عدد من العلماء والأولياء والصلحاء وأسسوا بها مجموعة من المراكز الثقافية والعلمية من مدارس ورباطات وزوايا، مثل شاكر صاحب الرباط المشهور وشيوخ وأولياء ركراكة وشرفاء وزان وغيرهم، ولم ينحصر الشأن الثقافي في هذه المدينة العالمة العربية والإسلامية، ولكنه شمل الثقافة الشعبية بأطيافها المختلفة ومشاربها المتعددة، وخاصة فن الملحون والعطية وصناعة الأواني الخزفية، فصارت بذلك قطبا متميزا لا يقل شموخا وتميزا عن باقي الحواضر المغربية، فلا يمكن ذكر التصوف المغربي دون ذكر شيوخ هذه الحاضرة، وخاصة أبا محمد صالح والجزولي، ولا يمكن ذكر الكتابة التاريخية دون ذكر علامتها محمد العبدي الكانوني، ول ايمكن ذكر الأدب الشعبي المغربي دون ذكر الشيخ بن علي والشيخة خربوشة وغيرها من شيوخ هذا الفن الذين تركوا بصماتهم في الثقافة الشعبية المغربية.
الحلقات التي نقدمها طيلة هذا الشهر الفضيل، إسهام متواضع في رصد التطور العام الذي عرفته الثقافة في مدينة أسفي ومعرفة الهموم التي شغلت أبناءها خلال القرون الماضية..

الحلقة 11

*الفقيه محمد السرغيني

الفقيه محمد السرغيني :. كان بحق في طليعة الوطنيين الكبار الذين أبلوا البلاء الحسن في محنة المغرب إبان الاحتلال الفرنسي.
إضافة إلى أن الفقيه كان أيضا من رجال العلم ودعاة القومية والوطنية وأبطال النهضة واليقظة.. ظلت بعض كتاباته في خطبه كسم قاتل للمحتل الغاشم، إلى أن نعم المغرب بالحرية والاستقلال.
ولد بأسفي عام 1918، وعلى يد فقهائها وعلمائها ظهرت نجابته وتفوقه، فبعث به أهله إلى فاس للتوسع أكثر في العلم والمعرفة إلى أن حصل على شهادة العالمية من جامعة القرويين. اختار مهنة التدريس حتى يستطيع تمرير خطابه النضالي ضد المستعمر الفرنسي، خاصة في أوساط شباب المدينة، إذ له الفضل في ترسيخ العقيدة الدينية والوطنية في نفوسهم.
ومن المعلوم أن الفقيه السرغيني كان قد نذر نفسه لخدمة مبادئ الحركة الوطنية، والعمل على توعية الجماهير وتعبئة الناس لمقاومة المستعمر، بادلا في ذلك جهودا جبارة ، مما ألب عليه زبانية الاستعمار الذين زجوا به في مختلف السجون، إلى أن تم إبعاده ونفيه ليعيش تحت الإقامة الجبرية بمدينة الجديدة.. ولم يعد إلى مسقط رأسه إلا بعد رجوع الملك الراحل سيدي محمد الخامس من منفاه بمدغشقر وإعلان استقلال البلاد. وهكذا، ظل يناضل من أجل مغرب جديد، متقدم وفاعل. إلى أن وافاه أجله المحتوم يوم عاشر أكتوبر 1983.
©العلامة الفقيه المستاري، عالم وفقيه ووطني كبير، نذر حياته من أجل تقديم كل ما لديه لتكون راية الوطن عالية.. عرف عند الناس” كفقيه وشيخ سلفي متمكن، وكمدرس ومربي نبيه، وعدل وتاجر وقاضي عادل وشاعر صوفي..”.
ولد بأسفي عام 1900، وبعد حفظه للقرآن الكريم وتلقيه لبعض علوم الدين على يد نخبة من علماء مدينة أسفي من أمثال: العلامة عبد الرحمن المطاعي والعلامة محمد مولاي الحاج وغيرهما.. شد الرحال كباقي طلبة أسفي في تلك العهود إلى مدينة فاس ليلتحق بجامعة القرويين حيث تخرج منها بعد حصوله على شهادة العالمية..
إضافة إلى نشاطه العلمي وإشعاعه الثقافي، انخرط الفقيه مبكرا في العمل الوطني، فكان عضوا نشيطا في الجناح السري للحزب الوطني المعروف باسم “الطايفة”، فشارك بقوة في مجموعة من التظاهرات احتجاجا على الظهير البربري الصادر في 16 مايو 1930.. مما حد بالمحتل الفرنسي إلى وضعه تحت المراقبة الدائمة، بل ومنعه من مزاولة عمله.. ليتم اعتقاله إثر نفي السلطان محمد الخامس بعد أن لفقت له تهمة تدبيرمحاولة اغتيال بمراكش. وعلى الرغم من محاولة الاستعمار الوقوف في وجه الفقيه المستاري، فإن الرجل لم تزده المضايقات إلا استمرارا متواصلا للنضال خدمة لهذا الوطن، مما جعله يحتل مكانة طيبة، وشعبية كبيرة، وسمعة جيدة لدى ساكنة مدينة أسفي..
وتجلى هذا التقدير في إصرارهم على تعيينه قاضيا شرعيا على المدينة وذلك بتقديمهم عريضة لباشا أسفي السيد امحمد بلخضير رفيقه في التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال.
إن إلحاح سكان أسفي على أن يكون على رأس العدالة في مدينتهم رجل كالفقيه المستاري، يدل على مدى تقديرهم لصدق وطنية هذا الرجل، علما بأن أسفي لعبت دورا كبيرا في مجال العمل الوطني إذ حضرت بقوة في كل الوقفات النضالية التي عرفها المغرب إبان الإستعمار الفرنسي، بمناصرتها للوطنيين والتجاوب معهم. فهي مدينة بارزة في الجهاد الوطني ضد المستعمر الذي اغتصب الأرض وقهر الشعب، مقابل خدمة مصالحه الضيقة.
توفي الفقيه عبد السلام المستاري، بمراكش سنة 1991  بعد حياة حافلة بالورع الديني، والإيمان الشديد والحب الكبير لهذا الوطن عموما، ومدينة أسفي على وجه الخصوص.

بقلم: الدكتور منير البصكري

نائب عميد الكلية متعددة التخصصات بأسفي

Related posts

Top